كميل الطويل 

تناولت وثائق حكومية بريطانية رُفعت عنها السرية في الأرشيف الوطني، أزمة الاجتياح العراقي للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، معيدة التذكير بواحدة من أشد الأزمات التي عصفت بالعالم العربي، وتحديداً بين دوله، في الحقبة الحديثة.

وتعطي الوثائق، وهي عبارة عن تقارير ومحاضر سرية أعدتها الحكومة البريطانية وبعثاتها الديبلوماسية، صورة واضحة عن التطورات التي سبقت الاجتياح، شارحة خلفياته، بما في ذلك قضية الديون العراقية المستحقة للكويت والمطالب العراقية بأراض كويتية، وبالتحديد جزيرتي بوبيان ووربة. كما تتناول الوثائق الاتصالات التي أجراها البريطانيون من أجل معرفة مدى خطورة المواقف العراقية التي سبقت العدوان على الكويت. وكان واضحاً، من هذه الوثائق، أن البريطانيين شعروا بقلق كبير إزاء النيات العراقية، لكنهم لم يكونوا يعرفون ما يُعدّ له صدام حسين، كما أنهم كانوا يخشون التصرف بما يثير غضب العراقيين ويؤثر في علاقاتهم التجارية معهم وأيضاً على مصير السجين البريطاني، رجل الأعمال إيان ريختر، الذي كانت لندن تسعى منذ فترة إلى تأمين الإفراج عنه من سجنه في بغداد.

ففي وثيقة مؤرخة في 30 تموز (يوليو) 1990، بعث سفير المملكة المتحدة لدى الأمم المتحدة في نيويورك (سير كريسبن تيكيل) مذكرة إلى وزارة الخارجية أبلغها فيها بأنه ناقش، بناء على طلبها، الأزمة العراقية - الكويتية مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهم - إلى جانب بريطانيا - سفراء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين وفرنسا. ولاحظ السفير، في برقيته، أن «حرارة» التهديدات العراقية للكويت تراجعت بعدما لبّى الكويتيون بعض المطالب العراقية، لا سيما في خصوص «تثبيت سعر جديد، ومرتفع، لنفط أوبك»، في إشارة إلى القضية التي أثارها العراقيون آنذاك في خصوص أن الإنتاج الكويتي من النفط يؤدي إلى تراجع سعره عالمياً، بينما العراق يريد رفع السعر كي يتمكن من سداد ديونه المتراكمة إلى الكويت وغيرها بعد خروجه من حرب منهكة دامت 8 سنوات مع إيران.

وينقل السفير البريطاني، في البرقية ذاتها، عن توماس بيكرينغ، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، إنه اتفق معه على أن هناك مشكلة أخرى «أكثر صعوبة» من قضية سعر برميل النفط وتتمثل في مطالبة العراقيين بجزيرتي بوبيان ووربة. وورد في البرقية أن بيكرينغ قال في الاجتماع إن صدام حسين أجرى محادثات مع سفيرة الولايات المتحدة في بغداد أبريل غلاسبي و «بدا أكثر ارتياحاً مما كان عليه منذ سنوات في خصوص شط العرب ووضع اتفاق الجزائر» الذي يحدد الحدود الملاحية مع إيران في هذا المجرى المائي بين البلدين. ومعروف أن كلاماً كثيراً قيل لاحقاً في شأن اجتماع صدام مع غلاسبي، وتحديداً ما قيل عن غضها الطرف عن تهديداته للكويت باعتبارها تدخل في إطار خلاف داخلي عربي - عربي. وهناك من فسّر موقفها آنذاك بأنه يعني أن الأميركيين لن يتدخلوا لمنع صدام من اجتياح الكويت.

في الواقع، جاء اجتماع سفراء الدول الخمس الكبرى في نيويورك على وقع معلومات استخباراتية بريطانية عن حشود عراقية «هائلة» تتجه نحو الحدود الكويتية. وأشارت مذكرة وقّعها «كيلي» من البعثة البريطانية في بغداد (روبن كيلي، القنصل البريطاني العام)، بتاريخ 22 تموز (يوليو)، إلى أن ضباطاً يعملون في القسم الدفاعي في السفارة قاموا برحلة، ذهاباً وإياباً، بين بغداد والكويت، وأنهم شاهدوا وهم في طريق العودة إلى العاصمة العراقية (سلكوا طريق صفوان - الناصرية - الكوت) حشداً غير مسبوق لقوات الحرس الجمهوري وهي تزحف نحو حدود الكويت. وتضمن تقرير العسكريين البريطانيين، والواضح أنهم من أجهزة الاستخبارات، تسجيل أرقام العربات العسكرية التي شاهدوها (أكثر من 3000 آلية)، والإشارات التي يضعها الجنود على بذاتهم العسكرية (علامة قوات الحرس الجمهوري والعلامة الحمراء للقوات الخاصة المظلية)، وأنواع الآليات التي يتم الدفع بها، من دبابات وناقلات جند وشاحنات نقل وعربات لوحدات الهندسة، وكذلك مواقع المخيمات التي يتم نصبها لهذا الحشد (غرب الزبير). ولاحظ التقرير أن الأمن العراقي لم يحاول التحرش أو عرقلة عمل العسكريين البريطانيين خلال مراقبتهم تقدم القوات نحو حدود الكويت. وبما أن جولة هؤلاء كانت قد نالت إذناً مسبقاً من السلطات العراقية، فقد خلص التقرير البريطاني إلى أن بغداد تريد على الأرجح أن يُعرف أنها تحشد قواتها ضد الكويت. لكن التقرير يقول إن النيات العراقية «ليست واضحة» في خصوص الهدف النهائي من إرسال القوات.

ما عجز تقرير كيلي من بغداد عن التنبؤ به سرعان ما كشفه صدام. فبعد 10 أيام فقط كانت القوات العراقية تعبر الحدود الكويتية، وتسيطر على كامل أراضي جارتها الصغيرة، ما اضطر القيادة الكويتية إلى الانتقال إلى السعودية التي وقفت بصلابة إلى جانب الكويتيين وضد العدوان العراقي.

وتفيد الوثائق بالتفصيل الاتصالات التي باشرها البريطانيون مباشرة بعد الغزو، الذي قوبل بقرار فوري من مجلس الأمن يطالب العراقيين بانسحاب غير مشروط (القرار الرقم 660، حظي بتأييد 14 دولة باستثناء اليمن الذي لم يشارك في التصويت). أصدر مجلس الأمن خلال الشهور السبعة لاحتلال الكويت قراراً تلو الآخر بفرض عقوبات وحصار على العراق، لكنها لم تنجح في إقناع صدام بالانسحاب سلماً.

وتوضح الوثائق البريطانية أن حكومة مارغريت ثاتشر كانت بالفعل تفكّر في بدء عمل عسكري، توقعاً لفشل العقوبات. وتكشف برقية من السفارة البريطانية في واشنطن (السفير سير أنتوني آكلاند)، بتاريخ 6 أيلول (سبتمبر) 1990، أن الجانب البريطاني بدأ اتصالات مع الأميركيين لمناقشة «الأسس القانونية للعمل العسكري» ضد صدام. وتوضح البرقية أن الأميركيين اتفقوا مع البريطانيين على أن الرسالة التي تلقوها من الحكومة الكويتية والتي تطالب بإجراءات اقتصادية ضد العراق لدفعه إلى الانسحاب «تحد مستقبلاً من حريتنا في بدء أي عمل (عسكري)». لكن الأميركيين جادلوا، في الوقت ذاته، بأن الرسالة الكويتية تنص على أن الهدف هو تطبيق القرار 660 الذي يطالب العراقيين بالانسحاب غير المشروط، وأن ذلك يمكن استخدامه - بالإضافة إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة - كمبرر يعطي «مشروعية لأي عمل عسكري أميركي» محتمل لتحرير الكويت. وتضيف الوثيقة أن الأميركيين جادلوا أيضاً بأن العمل العسكري يمكن اللجوء إليه «بمجرد إيماءة بالموافقة المسبقة من الكويتيين».

لكن البريطانيين لم يريدوا، كما يبدو، حصول تدخل عسكري سوى بعد تأمين أكبر حشد دولي ضد العراق، وبالتحديد من خلال جذب الاتحاد السوفياتي إلى موقف مشترك مع الأميركيين.

وتكشف الوثائق البريطانية أن ثاتشر سعت إلى التقريب بين الرئيسين جورج بوش وميخائيل غورباتشوف اللذين عقدا قمة في هلسنكي في مطلع أيلول (سبتمبر). ففي 6 أيلول تلقت ثاتشر من مستشارها للشؤون الخارجية تشارلز باول رسالة مصنّفة «سرية» تتناول المواضيع التي يفترض أن تثيرها في اتصال هاتفي مع بوش قبل اجتماعه مع غورباتشوف. وقال باول لثاتشر إن عليها أن تلفت نظر الرئيس الأميركي إلى أن «المشكلة الأساسية الوحيدة محل الخلاف هي هل هناك ضرورة للعودة إلى الأمم المتحدة من أجل نيل تفويض إضافي قبل استخدام العمل العسكري لطرد صدام حسين من الكويت». وأضاف أن عليها إبلاغ بوش بأن الرأي القانوني للبريطانيين يقول إن هناك حاجة إلى طلب رسالة جديدة من أمير الكويت تغطي مشروعية العمل العسكري لتحرير بلده. ويلفت باول نظر ثاتشر إلى أن الأميركيين يترددون في السير بهذا الخيار، ويدعوها إلى الطلب من بوش أن يشجع غورباتشوف «على سحب جميع المستشارين العسكريين الروس (من العراق). (لأن) وجودهم يعطي إشارة خاطئة: علينا أن نعزل صدام حسين في شكل كامل».

واستبقت ثاتشر اتصالها ببوش برسالة إلى غورباتشوف قالت فيها: «إن تبعات العمل العراقي خطيرة جداً بالفعل. ليس هناك أي مبرر يمكن تصوّره كي تزحف دولة وتحتل أخرى فقط لأنها تطمع في ثرواتها ومصادرها». واعتبرت رئيسة الوزراء البريطانية «أن التصرف العراقي يوجد عالماً بلا قانون، وسيؤثر في ثقة كل الدول الصغيرة». وفي إشارة إلى ألمانيا النازية وسياسات هتلر التوسعية في أوروبا في ثلاثينات القرن الماضي، توجهت ثاتشر إلى غورباتشوف قائلة: «لدولتينا ذكريات مريرة في خصوص تبعات العجز عن التصدي لابتلاع دول صغيرة في الثلاثينات».

وفي 6 أيلول أيضاً، كتب باول محضر اجتماع جمع ثاتشر ووزير خارجيتها دوغلاس هيرد لمناقشة أزمة الاجتياح العراقي للكويت. وجاء في المحضر: «قالت رئيسة الوزراء إنها متيقنة في شكل متزايد أن صدام حسين لن يخرج من الكويت سوى بعد رميه خارجها». وأضاف المحضر أن ثاتشر قالت إنها «وصلت إلى هذا الاقتناع نفسه في شأن الجنرال (الأرجنتيني) غالتييري في نزاع فوكلاند»، في إشارة إلى الحرب على هذه الجزر في العام 1982. في المقابل، لفت المحضر إلى أن «وزير الخارجية (هيرد) كان ميالاً أكثر لإعطاء فرصة للعقوبات كي تنجح، بشرط أن نقنع صدام حسين بأنه سيُضرب ضرباً شديداً إذا بقي» في الكويت. وبحسب المحضر ذاته، وافقت ثاتشر على ضرورة منح فرصة للعقوبات الدولية، لكنها قالت إن ذلك لا يجب أن يطول أكثر من 3 - 6 أشهر، وأنه يجب بدء التحضير للعمل العسكري تحسباً لفشل العقوبات. نقل المحضر عن ثاتشر: «إذا لم تنجح العقوبات وفشلت الولايات المتحدة والقوة المتعددة الجنسيات في القيام بعمل عسكري، فإنها تتوقع أن يوجّه الإسرائيليون ضربة (للعراق)».