سليمان الخضاري 

في مجتمعاتنا التي توقفت فيها عملية انتاج الفكر بشكل عملي منذ زمن واكتفينا بدور المستورد لكل ما تجود به الحضارة الحديثة من أفكار ومنتجات مادية، أضحى مجال النقاش عندنا محصوراً في تفسير بعض المفاهيم السياسية والاجتماعية الناشئة في مجتمعات وبيئات غير مجتمعاتنا وبيئاتنا ومدى انطباق تلك المفاهيم علينا، و«جواز» الإيمان أو تبني تلك المفاهيم من الناحية الفقهية أو الواقعية.

هذا التعاطي مع المفاهيم الناشئة في المجتمعات الغربية لا يخلو كالعادة من المماحكات الموجودة في واقعنا السياسي، فالبعض قد يشيطن تلك المفاهيم لا لسلبيتها بالضرورة، بل لسهولة استغلالها سياسياً ضد خصومه في ظل بيئة ثقافية انحصرت فيها قيمة البحث العلمي وحرية التفكير لمصلحة الشعارات الشعبوية المتداخلة مع بعض المفاهيم الدينية الراسخة في الوعي الجمعي لشعوبنا، وهذا كله يدور في فضاء تملؤه التوجهات الإقصائية والتشكيك في نوايا كل من يختلف معنا في الرأي وتسيطر عليه شبكة هائلة ومتداخلة من مصالح ترعاها نخب سياسية أو حركات دينية لا يهمها كثيراً أن نعي حقيقة تلك المفاهيم المشار إليها أعلاه ومدى إمكانية استخدامها لتطوير مجتمعاتنا.

من ضمن تلك المفاهيم الـ«مشيطنة» جملة من المصطلحات التي نجحت الحركات الدينية في وسمها بمعاداة الدين أو الخروج على مبادئه الرئيسية، والمثال الأوضح لذلك هو مصطلح العلمانية، والذي يحلو للبعض استخدامه مع مترادفات كثيرة قد تتقاطع معه بشكل أو بآخر، كالمدنية والليبرالية والديموقراطية وغيرها، أما البعض الآخر ممن يهمه كثيراً تشويه المصطلح فلا يستخدم العلمانية إلا ويلحقها بالإلحاد أو الشيوعية أو غيرها من مفردات اعتاد الفرد البسيط أن يقرنها بجملة «والعياذ بالله» عند ذكرها! ورغم الكم الكبير من الكتب والمقالات والمناظرات التي جرت في مجتمعاتنا عبر العقود الماضية لمناقشة مفهوم العلمانية، إلا أن المفهوم ما زال ملتبساً، وقد يكون ذلك «بفعل فاعل» أو خدمة لمصالح تيارات محددة، أقول ذلك وأنا في الحقيقة أرى أن معظم المجتمعات البشرية مارست العلمانية بشكل أو بآخر حتى تلك التي اتخذت من الدين سبباً لوجودها ومحوراً لتطورها، حتى أنني لا أفهم كثيراً هذا التشنج ضد هذا المصطلح بينما نعيش في واقعنا المحلي في ظل نظام حكم دستوري ينظم العلاقة بين الدين والتشريع، وهو ما أخاله ضرباً من ضروب العلمانية الصريحة، إلا ان كنت «شايف الموضوع خطا»!

العلمانية ببساطة هي مظلة كبيرة لطيف واسع من الأفكار، يرتكز أساسها على تنظيم علاقة الدين بالدولة وتحديد إطار تأثيره في عملية التشريع، وتحت هذه المظلة قد نجد فكراً يجنح لإقصاء الدين تماماً عن جميع مناحي الحياة كما في الأنظمة الشيوعية الشمولية، بينما نجد في المقابل أحزاباً دينية، كما في الكثير من دول أوروبا، وتركيا منها بالمناسبة، تقود دولها في ظل أنظمة حكم علمانية صريحة، مؤمنة بمبادئ النظام العلماني واعتباره ضمانة لتقدمها واستقرارها.

أغرب ما أراه هو الاستمرار في ربط العلمانية بالإلحاد من جهة، وبالتفسخ الأخلاقي من جهة أخرى، ولم أجد في كل الموسوعات والأبحاث العلمية أي ربط من هذا النوع، فالعلمانية في الأساس هي فكر متعلق بإدارة المجتمعات، ولا علاقة عضوية بينها وبين الأفكار الفلسفية المعنية بماهية الكون وبداياته وأسباب وجوده.

أقول هذا وأنا أعلم بجهود البعض يتم شحذها من جديد في مجتمعنا لاستخدام العلمانية كوسيلة اتهام وتحريض ضد خصوم سياسيين محتملين، ولست أعلم كيف «يبلع» شعبنا الطيب طعم هؤلاء الذين سيكون فحوى اتهامهم لخصومهم هو:

«ديرو بالكم من هؤلاء العلمانيين... الذين يريدون ضرب مبادئ مجتمعنا.. المحكوم بنظام دستوري.. علماني»!