&شتيوي الغيثي

لا يمكن إقامة مناشط ثقافية، أو فنية حرة من غير إصلاح في بنية الخطاب الديني والاجتماعي، وفرض الحقوق الإنسانية العامة التي نصت عليها حقوق الإنسان

الكل يعلم أن السعودية أعلنت رؤيتها الوطنية وتحولها الاقتصادي التنموي خلال السنوات القادمة حتى عام 2030 وهي بالتأكيد خطة تنموية طموحة جدا ولم يسبق أن تم الإعلان من قبل عن مثل هذه الرؤية، خاصة من هرم السلطة السياسية في هذا الوطن.

الخطة ذات أهداف ورؤى بعيدة المدى وتطمح إلى أن تنقل الوضع السعودي من حال إلى حال أكثر استقرارا، خصوصا في الجانب الاقتصادي بعد مرحلة ما بعد النفط وهي المرحلة التي كان لا بد أنه تم التفكير فيها منذ سنوات، وليس بعد الأزمة الاقتصادية، وعلى العموم فهي خطة طموحة بالفعل، لكنها تحتاج إلى عمل ضخم يؤسس البنية التنموية والإدارية الأساسية في تفعيلها خلال السنوات القليلة القادمة، ونحن جميعا بانتظار إعلان الخطط التنفيذية لذلك.

وبالطبع، فإن خطة تنموية طموحة بهذا الشكل تحتاج إلى أرضية فكرية وثقافية واجتماعية تتأسس عليها، ومن غيرها فإنها كحال الخطط التنموية السابقة التي لم يكن لمفهوم التنمية الإنسانية فيها مجال، بمعنى أن الحالة العمرانية والاقتصادية ألغت الحالة الإنسانية والفكرية لهذا المجتمع، فضلا عن أن الخطاب الديني زامن صعود الطفرة الاقتصادية وشكل المجتمع على شاكلته الدينية مما ألغى البعد الثقافي في العملية التنموية للخطط السابقة.

في رؤية السعودية 2030 التي تم الإعلان عنها كان محور الثقافة والترفيه واحداً من تلك المحاور التي يمكن الاعتماد عليها في تطوير الحياة الاجتماعية والثقافية في البلد من خلال "مجتمع داعم للثقافة والترفيه"، وتأسيس المراكز الترفيهية العالمية وإقامة المهرجانات والفعاليات لاستثمار الطاقات والمواهب"، و"عقد شراكات مع شركات الترفيه العالمية وتخصيص أراض مناسبة لإقامة المشروعات الثقافية، الترفيهية، من متاحف ومكتبات وفنون"، و"دعم الموهوبين من الكتاب والمؤلفين والمخرجين"، و"إيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوعة تتناسب مع كافة الأذواق الفئات". إضافة إلى تعزيز البعد التاريخي للسعودية من خلال "الفخر بالإرث الثقافي والتاريخي السعودي الإسلامي العربي"، و"الاهتمام بالتنشئة الاجتماعية واللغة العربية"، وإقامة الفعاليات والمتاحف الوطنية" و"إحياء مواقع التراث وتسجيلها دوليا وتمكين الجميع من الوصول إليها".

هذه المحاور التي نقلتها هنا تعطي الثقافة بعدا اقتصاديا، بمعنى أنها تندرج ضمن الرؤية التنموية للبلد التي ركز عليها إعلان الرؤية، والاستثمار الاقتصادية في الجوانب الثقافية خطوة يمكن أن تعزز من القيمة الثقافية في المجتمع وتعمل على تعزيز حراكه في بعض الجوانب الفنية والترفيهية.

لكن (وهنا مكمن الفكرة من الموضوع) هذه الرؤية الثقافية لا تصنع ثقافية جذرية الرؤية بحيث تذهب في مساءلة القيم الثقافية وتعيد تشكيلها وفق رؤية جديدة تعزز أكثر من الحراك الثقافي، بقدر ما أنها ستأخذ القيم الثقافية الحالية بكل ما يشوبها من شوائب والعمل عليها في المجال الترفيهي والثقافي من فنون وغيرها، وعلى رغم أهمية العمل على الفنون، بوصفها أحد أهم الجوانب الثقافية إلا أنها تدور في إطار محاذير كثيرة من رؤية المجتمع والخطاب الديني، بل وبعض رجال الدولة نفسها لمثل هذه الفنون بوصفها أداة إفساد للمجتمع، إضافة إلى أنها تم التعامل معها بحسب إعلان الرؤية بوصفها جانبا ترفيهيا واقتصاديا في حين أن الثقافة الأكثر عمقا هي في جوانب غير ترفيهية وغير اقتصادية. بل هي ثقافة تعزز من قيمة الحريات الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية التي لم يتحدث أحد عنها حتى الآن في الرؤية، وهي المهاد، أو الأرضية التي تقوم عليها كافة تلك المشاريع الثقافية والترفيهية. السينما مثلا (رغم عدم النص عليها في الرؤية كما تم النص على المسرح) جانب ترفيهي وثقافي واقتصادي كبير وتدخل من ضمن المشاريع التي تعتمد عليها الرؤية في جانبها الاقتصادي، إلا أنها ذات محاذير كثيرة عند الخطاب الديني الذي يناصب هذا الفن تحديدا العداء، وربما هذا ما جعل إعلان الرؤية يتجاوزها إلى غيرها، لكن ذلك لا يعفيهم من أن تكون السينما أحد أهم الروافد التي يجب الاعتماد عليها في البناء الثقافي الترفيهي في المجتمع. طبعا السينما هنا مثال وليس حصرا، وحينما تبقى الثقافة تحت رعاية الدولة ومقصورة في المناسبات الرسمية دون انسيابها في المجتمع بحيث نجدها في الشارع طبيعية مثلها مثل أي منشط اجتماعي دون خوف من أحد، فإنها لن تؤثر بشكل عميق كما نرجوه.

وبغض النظر عن كون هذه الطموحات الثقافية بكونها تصنع ثقافة عميقة الجذور أو سطحية ترفيهية إلا أنها تحتاج إلى أرضية فكرية واجتماعية أكثر، بحيث يتم تجديد الخطاب الديني السلفي الذي يعادي هذه الفنون من نفس مؤسسات الدولة الدينية الرسمية، فضلا عن بقية الخطب الديني غير الرسمي، إضافة إلى نشر الحريات الفردية والفكرية والتعبيرية لكثير من كتابه من خلال سيادة القانون، فالكتاب والمثقفون الذين يتم دعمهم من غير تهيئة تلك الأرضية فإنما هو هدر ثقافي واقتصادية لا يعكس إعلان الرؤية كما هو حاصل الآن، ذلك أن كثيرا من المؤسسات الثقافية رغم ما تعانيه من مشكلات إدارية، فإنها تحت وطأة الكثير من الخوف المجتمع والديني والرسمي الذي لا يسمح لها كثيرا بالعمل الحر من غير وصاية إمارات المناطق مثلا، والعمل الثقافي الحر هو أس العملية الثقافية ومن غيره.

لا يمكن إقامة مناشط ثقافية، أو فنية حرة من غير إصلاح في بنية الخطاب الديني والاجتماعي، وفرض الحقوق الإنسانية العامة التي نصت عليها حقوق الإنسان.