&وحيد عبد المجيد

يهتم معظم العرب بالولايات المتحدة أكثر من أوروبا، وتتجه أنظار كثير منا إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستُجرى في الأول من نوفمبر القادم، ويتابع بعضنا الآن تفاصيل الحملات التمهيدية التي ستفرز مرشحين اثنين ينحصر التنافس بينهما في الجولة النهائية.

ولا يحظى ما يحدث من تطورات سياسية وانتخابية في أوروبا باهتمام عربي مماثل، رغم أن بعضها قد تكون له آثار أكبر علينا وعلى العالم، ومن أهم هذه التطورات صعود أحزاب وقوى يمينية متطرفة، وتحول المزاج العام نحوها بمعدلات قد تكون بطيئة لكنها مطردة، ولم يكن تصدر نوربرت هوفر مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في النمسا الأسبوع الماضي (36,4% من الأصوات) مفاجئاً في هذا السياق، ولم يعد مستبعداً أن يصبح هذا المرشح المتطرف المعادي للإسلام، والعنصري في مواقفه تجاه العرب، رئيساً للنمسا إذا فاز في الجولة الثانية يوم 22 مايو المقبل.

وهذا تطور خطير رغم أن منصب الرئيس في النمسا شرفى بسبب طبيعة نظامها البرلماني، لكن الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في فرنسا منتصف العام القادم ربما تكون أكثر أهمية، لأن حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف يحقق تقدماً مستمراً في استطلاعات الرأي العام، وتبدو زعيمته ماري لوبن متفوقة على قادة الطبقة السياسية الفرنسية التقليدية.

وليس هناك ما يدفع لافتراض احتمال تراجع شعبية لوبن وحزبها خلال الأشهر القادمة في ظل استمرار العوامل الدافعة إلى صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا عموماً.

ورغم أن الاتفاق الذي أُبرم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا بهدف تقليص تدفق المهاجرين إلى دول الاتحاد وتنظيمه، ساهم في الحد من تأثير قضية الهجرة في الجدل الأوروبي العام، مازالت أحزاب اليمين المتطرف قادرة على استغلال هذه القضية وتحويلها إلى «فزاَّعة» لمصلحتها، وكان هذا واضحاً في خطاب هوفر الانتخابي، حيث أمعن في استغلال قرار الحكومة النمساوية الحالية استقبال 90 ألف لاجئ، وهو الرقم الثاني في أوروبا مقارنة بعدد السكان.

ويزداد تأثير هذا النوع من الخطاب كلما كانت الأوضاع الاقتصادية أكثر صعوبة. ويستطيع اليمين المتطرف في هذه الحالة استغلال الخوف من الهجرة والقلق من الأزمات الاقتصادية والمالية، فضلاً عن الربط بينهما وإعادة استخدامهما وقد مُزِجا في سياق واحد قد يكون أثره أقوى. لذلك يرتبط المدى الذي يبلغه هذا الحزب أو ذاك من أحزاب اليمين المتطرف في صعوده بمدى توفر ظروف تتيح استغلال كل من ازدياد طلبات اللجوء وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وتساعد على الربط بينهما أيضاً. فمثلاً يبدو حزب الجبهة الوطنية في فرنسا هو الأقوى بين هذه الأحزاب، لأنه يستطيع فعل هذا كله، بخلاف حزب البديل من أجل ألمانيا رغم نجاحه في استغلال التعاطف الذي أبدته المستشارة إنجيلا ميركل مع اللاجئين في وقت سابق، لكن الوضع الاقتصادي في ألمانيا مستقر، ومعدلات البطالة محدودة لا تتيح تحقيق تعبئة على أساسها، أو الزعم بأن وجود لاجئين أدى إلى زيادتها.

والحال أن ظروف العمل هي «الحليف» الموضوعي الأول لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، فهي تستغل تدهور هذه الأوضاع، وغياب الحماية الاجتماعية لقطاعات متزايدة تعمل في قطاعات الخدمات التي يزداد توسعها، وكذلك في قطاعات الاقتصاد الجديد الرقمي، بينما تبدو الأحزاب التقليدية عاجزة عن وقف هذا التدهور.

غير أن قدرة اليمين المتطرف على استغلال العوامل الدافعة لصعوده ليست مطلقة، لأن خطابه الهادف إلى استغلال معاناة ضحايا الأزمات الاقتصادية فضفاض يتسم بالسيولة ويفتقر إلى بديل عملي واضح، لكن خواء خطابه لا يظهر إلا لمن يفكر فيه، أو لدى اختباره فعلياً، فلم يستطع حزب الجبهة الوطنية مثلاً مساندة المحتجين المطالبين بإصلاح قانون العمل في فرنسا، وكان لجوؤه إلى الصمت كاشفاً أنه يعتمد في صعوده على نجاحه في استغلال أزمات ومشاكل، وليس على رؤية بديلة يطرحها.

لذلك ربما تكون الانتخابات الفرنسية القادمة معملاً لاختبار مدى قدرة اليمين المتطرف على تحقيق اختراق كبير في ثاني أهم بلاد أوروبا، لكن الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة في النمسا ستكون مؤشراً مهماً في هذا المجال.