&&إسماعيل جمال

&جولات جديدة من مسلسل الملاكمة والعراك المثير عاشها البرلمان التركي خلال الأيام الماضية، أعادت الذاكرة إلى تاريخ الظاهرة التي تلاصق أعضاء السلطة التشريعية الأولى في البلاد، والتي تشتهر بنواب أشداء لا ينهون جولاتهم عادةً إلا بإرسال خصومهم لـ«أسرة المستشفيات».

والاثنين، تبادل نواب من حزب العدالة والتنمية الحاكم وآخرون من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي المعارض اللكمات وتراشقوا بقوارير المياه بعد أن اندلع شجار عنيف جداً على خلفية مناقشة مقترح قدمته الحكومة ينص على تعديل مادة في الدستور التركي تسمح برفع الحصانة عن عدد من النواب لتقديمهم للمحاكمة بتهمة دعم الإرهاب.

وتقول وسائل إعلام تركية إن الاشتباكات بدأت بعد احتدام النقاش وهتاف نواب حزب الشعوب الديمقراطي باللغة الكردية «يعيش القائد أوجلان» (عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة بتهمة الإرهاب).

وأظهرت صور ومقاطع فيديو انتشرت بشكل واسع نواب من الحزبين وهم يتعاركون كما أنهم في حلبة مصارعة بعد أن احتد النقاش، حيث اشتبك بعض النواب بالأيدي فيما قفز آخرون من فوق الطاولات وانقضوا على زملائهم، في حين لجأ آخرون إلى قذف أجهزة الصوت وقوارير المياه التي كانت تملئ الطاولات والكراسي، وتم نقل «ادريس بالوكين» رئيس كتلة حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان إلى المستشفى بعد أن أصيب بالعراك. وصنفت وسائل إعلام تركية هذه «المعركة» أنها الأعنف في تاريخ البرلمان المشهور عنه بالعنف الذي تصاعد مع تزايد حدة الاحتقان السياسي في البلاد بشكل مسبوق على خلفية العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش التركي منذ أشهر ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني جنوب شرق البلاد وأدت إلى مقتل آلاف المسلحين ومئات من الجيش والشرطة والمدنيين.

وعقب الشجار أعلن رئيس اللجنة تأجيل الجلسة إلى وقت لاحق، إلى أن تمكنت اللجنة من إقرار المقترح في ساعة مبكرة من فجر الثلاثاء، حيث انسحب نواب حزب الشعوب الديمقراطي، وحظي المقترح بإجماع نواب باقي الكتل في البرلمان.

&

معارك لا تتوقف

&

معركة مماثلة كان قد شهدها البرلمان يوم الأربعاء الماضي، على الخلفية نفسها، الأمر الذي أدى أيضاً إلى تعطيل إقرار تشريع مطلوب من تركيا لإتمام إجراءات ضمن الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي حول اللاجئين ورفع الفيزا عن المواطنين الأتراك.

واندلع الشجار بعد أن اتهم نائب عن الحزب الكردي الحكومة التركية بقتل مدنيين خلال العمليات شرق البلاد، الأمر الذي أثار نواب الحزب الحاكم وبدأ الطرفان بتبادل اللكمات وتقاذفوا الزجاجات وقلبت القاعة رأساً على عقب، الأمر الذي دفع رئيس اللجنة لرفع الجلسة وتعليقها لعدة أيام.

والعام الماضي، نقل أربعة نواب إلى المستشفى، بعد إصابتهم باشتباك بالأيدي اندلع بين نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، ونواب من حزبي المعارضة الرئيسيان «الشعب الجمهوري» و»الحركة القومية»، لدى بدء مناقشة مشروع خلافي داخل مجلس الشعب التركي.

وخلال العراك أصيب خمسة من نواب المعارضة بجروح، نقل منهم أربعة إلى المستشفى، اثنان منهم تلقوا ضربات بالرأس بمطرقة عند البدء بمناقشة مشروع قانون طرحته الحكومة التركية يهدف إلى تعزيز صلاحيات الشرطة ينص على تسهيل إجراءات التوقيف والدهم والتصنت على المكالمات الهاتفية.

كما شهد عام 2014 عددا كبيرا من هذه المشاجرات، حدثت إحداها خلال نقاش البرلمان مسودة قانون يهدف إلى إجراء تعديلات على قانون «مجلس القضاء والمدعيين العامين»، حيث تطور النقاش بين أعضاء في حزب العدالة والتنمية الحاكم ونواب المعارضة، إلى اشتباكات بالأيدي وتحولت قاعة البرلمان إلى ساحة للقتال، تخللها عراك بالأيدي وتوجيه ركلات في الأوجه، وقذف زجاجات المياه، وصولا إلى قيام بعض الأعضاء باستخدام أجهزة الكمبيوتر (اللاب توب) والهواتف المحمولة في الاعتداء على الآخرين، وأصبح البرلمان أشبه بقتال الشوارع.

وفي الحادي عشر من كانون ثانييناير 2014، شهد البرلمان «معركة» مشابهة، بين نواب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري المعارض، تخللها عراك بالأيدي وتقاذف بزجاجات المياه. ولا تبدو هذه المعارك جديدة في تاريخ البرلمان الذي يشهد سنوياً ومنذ تأسيسه حلقات ضرب وتكسير تتركز أغلبها حول النقاشات المتعلقة بعلمانية الدولة، والاختلافات القومية بين الأتراك والأكراد.

&

تركيبة مُعقدة

&

ويتكون البرلمان التركي من تركيبة متناقضة سياسياً ودينياً وقومياً وأيديولوجياً، وعلى سبيل المثال فالبرلمان الحالي يتكون من حزب العدالة والتنمية الحاكم ذي التوجهات الإسلامية المحافظة، يليه حزب الشعب الجمهوري العلماني، وحزب الحركة القومية القومي المتشدد، بالإضافة إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.

ويتكون البرلمان الذي تأسس عام 1922 مع تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، من 550 نائباً، ينتخبون كل 5 سنوات، في 85 دائرة انتخابية في عموم البلاد.

وفي أحد تصريحاته السابقة، يلخّص نائب رئيس الوزراء «بولنت أرينتش» هذه الحالة بكلمات جاء فيها: «بصفتي نائبا في البرلمان منذ خمس دورات، أعرف جيداً هذه المشاجرات التي لا أستسيغها، لكن مع الأسف تجد نفراً من الأشخاص الذين ينسون أنفسهم ويسيئون الأدب، وحينها يرغب نفر آخر برد هذه الإساءة، لنرى هذه المشاهدة غير المرغوب بها».

ويُحسد الصحافيون الأتراك العاملون على تغطية جلسات البرلمان من أنهم لن يعانوا من الروتين والملل والنعاس الذي يعانيه نظراؤهم في البرلمانات الهادئة، فدائما ما تحمل لهم جلسات البرلمان التركي الإثارة والتشويق.

&

النواب الأعنف في البرلمان

&

ويعتبر «زيد أصلان»، النائب عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، بطلاً للعديد من أحداث الشغب التي يعيشها البرلمان التركي بين الفينة والأخرى؛ إذ صعد ذات مرة في مشاجرة على المنضدة، ووجّه لأحدهم ركلة بقدمه أعادت إلى الأذهان مشاهد المصارعة الحرة. ولم يكتفِ بذلك، فهو لا يتورّع عن التلفظ بأفظع ما يحويه قاموس الشتائم على الملأ، ما دعا بعض قادة حزبه للمطالبة بإبعاده مؤقتاً عن البرلمان، وتم عرضه على لجنة تأديبية، حيث يؤكد أصلان أنه غير راضٍ عن تصرفاته، مشيراً إلى أنه يتلقى الدعم من خبير نفسي لمساعدته على التحكم في انفعالاته وقت الغضب.

ومن بين الذين لهم صولات وجولات في عالم الشجار في البرلمان التركي النائب عن حزب العدالة والتنمية من إسطنبول «أوكتاي صارال» الذي وجّه قبل أعوام لكمة إلى نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض «بولنت تيزجان»، ازرقّت على إثرها عينه، وأدمى حاجبه، وكُسرت نظارته، وحصل على تقرير طبي سمح له بالتغيب عن العمل لثلاثة أيام.

وأما في صفوف أحزاب المعارضة، فيبرز من بينها النائب عن حزب الشعب الجمهوري «كمر جينتش»، بحيث قاطع السيدة «أمينة» زوجة رئيس الوزراء «رجب طيب أردوغان» خلال كلمة ألقتها في مراسم استقبال أقيمت في البرلمان قبل ثلاثة أعوام، قائلاً «بأي صفة تتكلمين هنا؟»، فنشب شجار مع ووزير الطاقة آنذاك «تانير يلديز».

ويشتهر من حزب السلام والديمقراطية النائب «سرّي صاقيق» الذي قذف علبة مناديل صوب النائب «وحيد كيلر»، فلم تصبه وكسرت مزهرية كانت بجواره، كما حاول صاقيق قذف كوب نحو النائب «محمد متين أر»، إلا أن النواب الآخرين منعوه من فعل ذلك بصعوبة بالغة.

&

وفاة نائب عام 2011

&

على أن أشهر شجار في تاريخ البرلمان التركي حدث عام 2001، وأفضى إلى وفاة النائب عن حزب الطريق القويم «فوزي شيهانلي أوغلو» بأزمة قلبية بعد شجار مع نواب حزب الحركة القومية، وقد أُدخل النائب «جاهد تَكَلي أوغلو»، الذي كان سبباً في وفاة شيهانلي أوغلو، السجن لمدة 13.5 شهر.

وبجانب الاختلافات الفكرية التي تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فإن البرلمان يضم نواباً من الفنانين والرياضيين، إلى جنرالات الجيش، ومساجين سابقين، حيث كان لفوز النائب عن حزب السلام والديمقراطية الكردي «ثريا أوندر» في البرلمان السابق، الكثير من التشويق فالرجل مخرج تلفزيوني وسينمائي، مشهور بأفلامه التراجيدية والكوميدية السياسية، وهو رمز للسخرية الشعبية المفرطة في عالم الأفلام.

&

كسر قوانين البرلمان

&

وللإثارة في كسر القوانين نصيب من مغامرات البرلمانيين الأتراك، حيث شهد البرلمان قبل سنوات دخول النائبة عن مدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية «ليلى زانا» إلى المجلس وهي ترتدي «البنطال»، وهو ما يتعارض مع قانون المجلس الذي يجبر النائبات على ارتداء «التنورة» فقط، حيث وافق البرلمان في وقت لاحق على تعديل القانون لأول مره منذ تأسيسه.

وتأتي هذه الخطوة بعد أن دخلت أربع نائبات تركيات البرلمان وهن يرتدن الحجاب، في سابقة تاريخية، تخللها نقاشات حادة بين النواب ومعارضة شديدة من أحزاب المعارضة العلمانية.

وفي كل مجلس جديد تبرز الخلافات حول قراءة اليمين الدستوري، حيث يحاول النواب الأكراد قراءته باللغة الكردية الأمر الذي يثير غضب النواب القوميين وترفض رئاسة المجلس احتساب اليمين إلى أن يتم إعادته باللغة التركية دون استثناء أي عبارة منه.

وفي الجلسة الافتتاحية للمجلس الحالي، استمرت مراسم حلف اليمين لمدة 9 ساعات ونصف، وسط نقاشات حادة ومواقف طريفة من قبل العديد من النواب.

وفي الوقت الذي يعترض فيه بعض السياسيون على نظام البرلمان الأساسي والقاضي بضرورة حصول الحزب على نسبة 10٪ من أصوات الناخبين للدخول في البرلمان، يستبشر آخرون فيها خيراً، معتبرين أنه في حال خفض نسبة الـ 10٪ لدخول البرلمان فإن تشكيلة أوسع من التوجهات الفكرية المتناقضة والمتشددة كانت ستجتمع في البرلمان وتحول قاعاته إلى «ساحة حرب».

&

&

&