&حسن حنفي

عندما تتم دراسة التاريخ في جامعاتنا نُعلم عادة كل شيء عن تاريخ العالم بكل مناطقه وبكل عصوره، بمعلومات متراصة، وعرض متتال، وفق نظرة تاريخية متتابعة ومستندة على وقائع الماضي، في حين أنه يمكن دراسة الماضي من خلال الحاضر، فالحاضر هو تراكم للماضي. ويمكن اعتبار الحاضر على أن فيه ملمحاً من نقطة البداية للماضي، وفيه أيضاً نقطة النهاية. ففي تاريخنا المعاصر في مصر مثلاً، بقايا من مصر الفرعونية، ومن مصر القبطية، ومن مصر الإسلامية.

وفي الفلسفة ندرس المذاهب الفلسفية القديمة والحديثة اليونانية والغربية والإسلامية القديمة، حتى يعلم الطالب شيئاً من كل شيء، وقد لا يعلم أي شيء عن التيارات الفلسفية المعاصرة له، أو عن سبب غيابها إن لم تكن موجودة. فنحن لا نكاد نعلم شيئاً مثلاً عن الفكر المصري الحديث، وهو الفكر الذي ننحدر منه والذي ما زال تأثيره محسوساً في حياتنا المعاصرة.

وفي الفن يحدث الشيء نفسه، إذ ندرس الاتجاهات الرئيسية في علم الجمال، وقد لا نطبق شيئاً منها على أعمالنا الفنية المعاصرة، ولا نقوم بمحاولات مباشرة لرفع أسس النقد الجمالي، أو لدراسة قوالب الفن المسرحي أو في دراسة أزمة الفنون المعاصرة لدينا، وخاصة في مجالي الموسيقى والسينما.

وفي الأخلاق، نكرر عرض المذاهب المثالية أو المذاهب الواقعية، أو نتأمل في الحياة تأملاً ذاتياً شخصياً دون أن نحلل شعورنا الخلقي، وبناءه النفسي، ففي كثير من الأحيان يقوم سلوكنا على ازدواجية القيم بين الحلال والحرام، الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، وغالباً ما نكون في الطرف السالب ونتستر وراء الطرف الموجب ونعلن عنه. وقد يكون دفاعنا عن الفضيلة، أحياناً، تعبيراً عن كبت دفين، يود التعبير عن نفسه. ويمكن أن يكون علم الأخلاق تحليلاً لشخصيتنا الوطنية، ودراسة لسلوكنا اليومي بهدف التغيير، وتحويل سلوكنا من أخلاق القيم إلى أخلاق الطبيعة والفطرة، حتى نكون أكثر اتساقاً مع أنفسنا وأكثر صراحة.

وفي القانون ندرس الشرائع الأرضية والسماوية، والبشرية، اليونانية والرومانية، المسيحية والإسلامية، وقد نتوقف عن دراسة القانون في واقعنا الخاص، وعن مقدار سيادته، وعن عمليته ومدى مطابقته للواقع، وعن مصدره، وتطبيقه، بل عن وجوده أساساً، على رغم حديثنا عن تقنين الثورة. وما زال إقحام الدين يقع عندنا أحياناً في تدريس التاريخ، ومرة في القانون، ومرة ثالثة في السياسة! ورابعة في الجمال وخامسة في الفلسفة.. الخ، دون أن يصبح موضوعاً لعلم خاص وهو علم تاريخ الأديان، الذي أصبح الآن في البلاد المتقدمة علماً قائماً بذاته، وفي بعض الأحيان، ربما وجدت حتى أقسام أو كليات قائمة بذاتها.

وخلاصة القول: إننا لم نضع تصوراً قومياً للعلوم الإنسانية، ولم نحدد هدفنا منها، واقتصرنا على ترديد أهم نظرياتها ومناهجها على المستوى النظري، دون أن نحولها إلى علوم قومية، هدفها التغيير الفعلي للمجتمع بعد دراسته دراسة مباشرة إلا فيما ندر. ولذلك قد يشعر بعض الأساتذة الشبان، الذين يودون طرح مشكلات العلوم الإنسانية طرحاً قومياً، بازدواجيتهم الجامعية. فهم يقومون بتدريس مواد محايدة أو موضوعية أو تاريخية، ويعيشون أزمة واقعهم الخاص، ويحاولون القضاء على هذه الازدواجية بإعادة صياغة العلوم الإنسانية صياغة قومية، حتى يخرج الجميع عن هذا الفصام السائد في حياتنا، بين علوم نتعلمها وأزمات نعيشها. ويمكننا الآن في محاولتنا لتطوير التعليم، تحويل هذه الجهود الفردية إلى تخطيط قومي عام. وبالتالي لا تكون المواد القومية منفصلة بذاتها في التعليم العام، بل يمكن إعادة صياغة كل مادة في إطار قومي. فالتاريخ يمكن كتابته بنظرة قومية، وكذلك الفلسفة والأدب، فالمواد القومية بوضعها الحالي قد يشعر الطالب وكأنها مفروضة عليه، للتقصير في تقديمها له بشكل جذاب، يدفعه لدراستها بكل اجتهاد ومثابرة، وبما تستحق من اهتمام وعناية.