&ليونيد بيرشيدسكي

كتب المليادير الروسي «بيتر آفن» واقتصاديان من موسكو، هذا الأسبوع، مقالًا يفصلون فيه ما يطلقون عليه «اضمحلال الدولة النفطية»، ووجود اسم «آفن» كأحد المشاركين في كتابة المقال لا ينبغي أن يمر مرور الكرام، فقد شغل الرجل منصب وزير التجارة الخارجية في روسيا عام 1992 حين كان بوتين مسؤولاً عن التجارة الخارجية في مكتب رئيس بلدية بطرسبورج لذا يعرف كل رجل منهما الآخر جيداً.

وقدم «آفن» ومشاركاه في كتابة المقال تشخيصاً متشائماً وتنبؤات وخيمة، وأشاروا إلى أن الدول النفطية مثل روسيا وفنزويلا استخدمت عائدات النفط لتستمتع بالنمط الاستهلاكي الغربي دون أن تساهم في القيم الغربية التي أتاحت مثل هذا الاستهلاك، وجاء في المقال: «عمالقة النفط- أي حفنة من البلدان المنتجة للنفط القادرة على ممارسة تأثير كبير على أسعار النفط- سيقعون ضحية اليد الخفية لسوق تتزايد أسلحتها باستخراج نفط جديد وتكنولوجيات توفير الطاقة والحلول غير النفطية في النقل وتوليد الكهرباء والبتروكيماويات».

ويعتقد الكتاب أن هذا سينشأ عنه تغيرات سياسية وجيوسياسية، فأميركا اللاتينية ستتحول إلى اليمين مبتعدة عن سياستها الشعبوية اليسارية، وفي الشرق الأوسط سيضعف تأثير بعض الدول العربية لمصلحة تركيا وإسرائيل وإيران، والعولمة لن تكون نفسها مرة أخرى، وجاء في المقال «مع تراجع تدفق الاستثمار والهجرة بين الدول المنتجة للنفط وباقي دول العالم، سيصبح جسم العولمة أضعف، لكن روحها ستتعافى، والاستمتاع الكامل بالرفاهية والتكنولوجيا الغربية لن تصبح متوافقة مع التنكر لقيمها ومؤسساتها».

ومقال «آفن» مثال على القلق العميق في كبريات الدول المنتجة للنفط. لكن في فترات انخفاض الأسعار السابقة، كان يعتقد أن الأسعار سترتفع ثانية وأن فترة الركود قصيرة الأمد. أما الخطاب اليوم فهو متشائم يشير إلى أن الأسعار لن تصعد ثانية، ومن السهل قبول هذه الفكرة إذا قرأ المرء قصصاً إخبارية كثيرة عن شركة «تيسلا» لتصنيع السيارات التي تعمل بالكهرباء والتقدم التكنولوجي الذي حققه مستخرجو النفط الأميركيون بطريقة التفجير الصخري، لكن من الصعب قبول هذه الفكرة إذا انغمس المرء أكثر في تفاصيل تكنولوجيا بطاريات السيارات وإنتاج النفط الأميركي، بل وفي إحصاءات استثمارات الطاقة، ولا يوجد دليل على إذا ما كان أكبر ازدهار للنفط قد ولى عصره، وحتى الآن فإن مسار الطلب على النفط متجه دون شك إلى صعود.

وما لم يحدث شيء يعرقل هذا، مثل ابتكار بطارية سيارة رخيصة تستطيع إمداد المحرك بالطاقة لمسافة 400 ميل، فإن التغيرات في عادات المستهلك والأسعار ستستمر على الأرجح وخاصة في الدول النامية مثل الهند التي تحرك حالياً نمو الطلب، وهذا الافتقار إلى الاستثمار في استكشاف وإنتاج النفط في العامين الماضيين سيجعل النفط أكثر ندرة مرة أخرى، والازدهار النسبي الحالي الذي صعد بسعر خام برنت إلى ما يقرب من 50 دولاراً للبرميل صعوداً من نحو 28 دولاراً للبرميل في يناير الماضي يوضح ما يمكن أن يحدث بعد ذلك، و«آفن ليس متشائماً بشأن النفط بما يجعله يخرج من النشاط الاقتصادي، فقد استحوذ آفن وشركاه على شركة «ديا» الألمانية للنفط والغاز العام الماضي فحسب.

لكن المقال ما زال مهماً، و«آفن» يمثل مجموعة صغيرة متبقية من الليبراليين السياسيين والاقتصاديين المؤثرين نسبياً الذين يأسفون على مسار روسيا الحديث الذي يبتعد عن الغرب، والمقال يأتي في الوقت الذي يطلع فيه بوتين على مسودات خطتين اقتصاديتين تنمويتين إحداهما تقوم على الاستثمارات الحكومية والاكتفاء الذاتي والثانية أكثر ليبرالية وتقوم على الضبط المالي والإصلاحات الهيكلية، وعبر «آفن» بوضوح عن تفضيلاته في المقال، لكن باعتباره أحد رجال الحاشية المتمرسين لم يضغط بل تأكد فحسب من إعلان تحذيراته كحجة لتقليص الحكومة وتحفيز النمو في غير قطاع النفط، وقواعد الجدل تغيرت بشكل كبير في روسيا في الآونة الأخيرة لكن الجدل نفسه لم يتوقف تماماً، فدعاة الحداثة أو التغريب أصحاب النفوذ ما زالوا من الممكن أن تُسمع أصواتهم. والمسار الذي ستسلكه روسيا في المستقبل يعتمد على إذا ما كان بوتين سينصت إليهم ولو قليلاً.