&عاطف الغمري

سواء حققت المبادرة الفرنسية لتحريك عملية السلام هدفها، أو قوبلت بعراقيل تلقى في طريقها، إلا أنها تمثل في حد ذاتها، خطوة ذات مغزى، في التعاطي دولياً مع النزاع الفلسطيني- «الإسرائيلي» الذي وصل إلى حائط مسدود، يحول دون أي انفراج.

فالإعلان الفرنسي عن مبادرة جديدة لعقد مؤتمر دولي لكسر الجمود في مفاوضات السلام، يعد محاولة للخروج عن قاعدة سعت الولايات المتحدة لإرسائها، في إدارة مفاوضات السلام، باستبعاد أي دور لأوروبا، مثلما جرى في أواخر التسعينات، عندما حاولت دول أوروبية أن تتحرك بدور أوروبي في مفاوضات السلام، وفي الحال مارست الولايات المتحدة ضغوطاً عليها، للتراجع عن هذا الدور، وأبلغتها ألا تتدخل في شأن، تتولاه الولايات المتحدة، كراعية للمفاوضات المباشرة بين«إسرائيل» والفلسطينيين.

وكما هو معروف، كانت عملية السلام اكتسبت قوة دفع بعد مؤتمر مدريد عام 1991، الذي قبلت فيه «إسرائيل» خيار السلام تحت ضغط من إدارة الرئيس جورج بوش الأب، ثم حدث انقلاب «إسرائيلي» على عملية السلام ومبادئها المتفق عليها في مدريد، وما كان لحق بها من اتفاقات أوسلو عامي 1993، و1995، وإقرار كل من بوش الأب، وكلينتون كوسيط نزيه، بأن السلام سيكون شاملاً على كل المسارات بما في ذلك المساران السوري واللبناني. وجاء الانقلاب مع فوز نتنياهو في انتخابات عام 1996، برئاسة الحكومة.

ثم أخذت توالي وضع العراقيل، أمام عملية السلام، ومحاولات «إسرائيل» فرض الأمر الواقع بالقوة.

وتحول دور الولايات المتحدة كراعية لعملية السلام ووسيط نزيه - كما كانت تطلق على نفسها - إلى مجرد إدارة لاستمرارية المفاوضات، وليس لدفعها نحو حل للنزاع.

وحتى عندما أعلن أوباما فى عام 2009، أنه سيقف وراء تسوية النزاع «الإسرائيلي» الفلسطيني، على أساس حل الدولتين، ورفض الاستيطان، فإنه سرعان ما أذعن لصلف وغطرسة نتنياهو، وتحولت مواقفه مجرد بيانات لا طائل منها، وإلى زيارات لوزير خارجيته إلى «إسرائيل»، التي كان يعود منها خالي الوفاض، من دون أن تتخذ الإدارة الأمريكية أي إجراء لتفرض على نتنياهو، احترام ما تعلقه أمريكا مراراً على السلام، ودورها التفاوضي، والهدف منه.

وأمريكا تستطيع ذلك، وهناك سوابق تاريخية لهذه القدرة الأمريكية، - مثلاً- محاولة «إسرائيل» فى عام 1975، التراجع عما اتفقت عليه برعاية أمريكية لفض الاشتباك في سيناء. ثم فوجئت «إسرائيل» بالرئيس جيرالد فورد، يصدر بياناً رسمياً من البيت الأبيض، يعلن أنه سيقوم بإجراء مراجعة شاملة لعلاقات أمريكا مع دول الشرق الأوسط. وأمام هذا الموقف، تراجعت الحكومة «الإسرائيلية» عن تصرفها.

وتكرر النموذج نفسه، عام 1991، بعد مؤتمر مدريد، وموافقة «إسرائيل» على وقف الاستيطان، ثم فوجئت أمريكا بحكومة إسحق شامير، تعود إلى ممارسة سياسة الاستيطان، والتوسع فيه، وفي الحال أعلن الرئيس بوش الأب، - عتاباً ل«إسرائيل» - عن وقف تسليمها قرضاً مقداره عشرة مليارات من الدولارات. ثم ذهب وزير خارجيته - جيمس بيكر إلى الكونغرس ليعلن أمامه أن تصرفات «إسرائيل» هي ضد مصالح الولايات المتحدة. وبسرعة تراجعت «إسرائيل» عن كل قراراتها. أي أن الولايات المتحدة تملك القدرة على إلزام «إسرائيل» باحترام ما تعلنه أمريكا من سياسات، لكننا كما رأينا مؤخراً كيف أن أمريكا بدت كأنها تنفض يدها من عملية السلام، وتريد أن تكتفي بمفاوضات تجري إلى ما لانهاية، من دون توقيت زمني، ومن دون أي التزام من «إسرائيل». &

لهذا جاء إعلان فرنسا عن مبادرتها متضمنة مبادئ لحل النزاع، على أساس حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وجعل القدس، عاصمة مشتركة بين الدولتين، وجدول زمني لإنهاء الاحتلال، وعقد مؤتمر دولي للسلام.

ثم إن فرنسا دولة أوروبية كان سبق للولايات المتحدة أن أبلغت كل أوروبا، ألا تقترب من هذا المسار. لكن مع إطلاق المبادرة الفرنسية، فقد اتخذت خطوة يمكن أن تكون بداية تحول جدي وعملي في التعامل مع مفاوضات السلام.

ومع ملاحظة أن فرنسا هي المبادرة بها حتى الآن، لكن تصرفها يمكن أن يحشد معها دولاً أوروبية أخرى، وهو ما سيضع الولايات المتحدة في موقف يثير علامات استفهام عدة على جدية تصرفاتها تجاه عملية السلام، خاصة أن دورها كوسيط نزيه قد تجمد عند نقطة إدارة مفاوضات السلام، وليس إيجاد السلام.