&حسن حنفي

إذا تبادر للذهن مصطلح «الثقافة الوطنية»، فإن من حقنا أن نتساءل: هل هي موجودة أساساً؟ وأعني بالثقافة الوطنية الحد الأدنى من المبادئ والأهداف التي يمكن للمواطنين، وبوجه خاص للمثقفين، الاتفاق عليها. إننا نعاني أساساً في مثقفينا، خريجي الجامعة، من عزلتهم عن واقعهم، ومن عدم حماسهم أحياناً لشيء، ومن أنهم تركوا الجامعة ولم تتضح رسالتهم العلمية بعد، ولم يعرف بعضهم ماذا يستطيع أن يقدم وإلى أي حد، بل نجد كثيراً منهم قد عكف على مصلحته الخاصة وعلى تحقيق المثل الجديدة، من سعي وراء الرزق، قد يصل به حتى إلى حد التخلي عن شرف الكلمة، أو إلى الهجرة.

وبعض مَن استطاعوا إلى حد ما الخروج بشيء من الجامعة، خرجوا بعقليتين مختلفتين الأولى ريفية، والثانية حضرية إن شئنا استعمال لغة علماء الاجتماع، الأولى محافظة والثانية تقدمية إذا شئنا استعمال لغة السياسة، أي أن التعليم الجامعي لم يستطع أن يحول العقلية الريفية إلى حضرية أو تطوير المحافظة إلى تقدم. فظل الريفي ريفياً والحضري حضرياً. ولا نجد من الطلبة من تطور أو نضج إلا من كان له اختيار سابق، وهو في الغالب اختيار تقدمي، وإلا من كان بطبعه شاعراً أو قاصاً أو ناقداً، وذلك لأن الأديب أكثر قدرة على الالتصاق بالواقع والتطوير طبقاً لمقتضياته. ولا تزال هاتان العقليتان سائدتين في حياتنا الثقافية وتبدوان على أوضح صورة في ثنائية التعليم لدينا، بين الجامعة الوطنية والجامعة الدينية، وكأن هناك علمين: علماً دنيوياً وعلماً دينياً، وكأن العلم الدنيوي لا يحقق مقاصد الدين، وكأن العلم الديني لا شأن له بأمور الدنيا.

لقد استطعنا إلى حد ما القضاء على ثنائية التعليم لدينا، بين التعليم الخاص والتعليم الوطني، أو على الأقل خفت حدّته عن ذي قبل، ولكن بقي أن نحقق وحدة نظمنا التعليمية حتى نستطيع المساهمة بالفعل في خلق الثقافة الوطنية الواحدة. وفي داخل العقليات قد نجد تشتتاً وتبعثراً، وكأننا جميعاً لا نعيش في واقع واحد. فنجد فيها من يرى التقدم في تقليد الغرب، ومن يراه في تقليد القديم، وثالث يراه في تحقيق مصالح طبقته الخاصة. لقد قيل عن مصر إنها بلد متجانس، سماؤها كأرضها، شمالها كجنوبها، وإنها لا تعرف التشتت الداخلي، ونزاع القوميات الذي عرفته الشعوب الأخرى. والحقيقة أن هناك أمصاراً كثيرة داخل مصر، كأن هناك العديد من الدوائر المنعزلة التي لا صلة لبعضها ببعض آخر من قريب أو بعيد، فهناك مجتمع القرية وهو غير مجتمع المدينة، وهناك الطبقة الشعبية وهي غير الطبقة النخبوية. وهناك فئات كل منها محصور داخل مشاكله الخاصة. والجامعة قد تكون هي المسؤولة عن هذا التشتيت، لأنها لم تكسر حدة الفوارق الطبقية، ولم تفتح هذه الدوائر المنعزلة لخلق المجتمع الواحد المتجانس.

وقد لا تعني وحدة الثقافة الوطنية انتماء المثقفين جميعاً إلى تيار فكري واحد، بل تعني الاجتماع على قضايا أولية، تمثل الحد الأدنى للثقافة الوطنية، مثل تصفية بعض مظاهر الخرافة في تراثنا القديم وفي عقليتنا المعاصرة، وإعمار الأرض، وإعادة توزيع الدخل، والتنمية، وارتباط الفكر بالواقع، أي حصول المثقفين على بعض المبادئ العامة أو على رؤية واضحة المعالم، تكون ضماناً كافياً لارتباط المثقفين بالأرض، وبملايين المعدمين، وتجمعهم على قضايا وتحديات الواقع.

تستطيع الجامعة إذن المساهمة بصفة فعالة في خلق ثقافتنا الوطنية، وتحليل عقليتنا المعاصرة ورؤية رواسب الماضي فيها وتراكماته، ما يعوقها وما يدفعها إلى الأمام، وخاصة أننا نمُّر بلحظة نحتاج فيها لثقافة وطنية، ولتحديد خصائص الأمة، كما فعل «فيشته» في «نظرية العلم»، فنحن مهددون في وجودنا في المنطقة ويمكننا درء هذا الخطر بتحديد وترسيخ أسس ثقافتنا الوطنية التي هي أساس وجودنا القومي.