&رائد السمهوري& &

اعتدنا أن نأخذ فتاوى العلماء الكبار كابن تيمية والغزالي وعز الدين بن عبد السلام مجرّدة عن سياقها التاريخي والاجتماعي ونسقطها على زماننا إسقاطا

من أوجب الواجبات اليوم - فيما أراه أنا العبد الفقير- عند دراسة الفكر الديني، أو الخطاب الديني - ولا مشاحّة في التسميات - دراسة الأفكار الدينية في سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي. لماذا قيل ما قيل لينًا أو عنفًا، تشددًا أو تيسيرًا؟ لماذا حظيت تلك الفكرة بأن تكون في المركز، واحتل غيرها الهامش؟ وما كان يصلح في سياق وزمان معيّن، أيصحّ أن يصلح في كل زمان ومكان؟ أحسب أن هذا ييسر لنا سبل الفهم، ويعين على التحرّر؛ فإن فئامًا من الناس -مخلصين جادّين- يرون أن الفتوى التي أطلقت في القرن السابع الهجري مثلاً تلزم الناس في القرن الخامس عشر الهجري؛ مع أن تلك الفتوى لا تلزم الناس حتى في زمن صدورها أصلاً، فما حكم الحاكم، واجتهاد المجتهد إلا رأيه هو واجتهاده هو.

ولا أخفي سرًّا أني بقيت حينًا من الدهر أتعامل مع الفتاوى كأنها في معزل عن سياقها التاريخي والاجتماعي، ولم يكن همّي إلا النظر في الرأي والردّ عليه مجردًا من كل القيود المحيطة به، أو الأخذ به مجردًا عن سياقه.

غير أني -بعد ممارسة وقراءة ونضج- أرى الآن، إذا هممت ببحث أو دراسة لفكرة دينية أو منظومة فكريّة، أن عليّ دراستها ضمن سياقها، كيف نشأت هذه المنظومة؟ ولماذا؟ وما المراد منها؟ ها هنا لن يكون همّي النقد والنقض بل العظة والعبرة والفهم، ثم بعد هذا يكون لواقعي أنا شأن آخر، ولأوضاعي وسياقي حديث آخر.

اعتدنا أن نأخذ فتاوى العلماء الكبار كابن تيمية والغزالي وعز الدين بن عبد السلام مجرّدة عن سياقها، فأسقطناها على زماننا إسقاطًا، حتى كأن أولئك العلماء الكبار الذين أفضوا إلى ما قدّموا يحكموننا نحن، وما أفتوا فيما أفتوا –لا سيّما فتاواهم الاجتماعية– إلا من أجلنا نحن، وليس هذا بصحيح لا من قريب ولا من بعيد. حين يهاجم ابن تيميّة الفلسفة مثلاً، فهل المقصد بهجومه هذا (جنس الفلسفة)؟ أي كل ما يصحّ أن يسمّى فلسفة؟ أم هو – يا ترى – هاجم منظومة محددة من الأفكار سمّيت في زمانه فلسفة، فأضحى إذا قيل: "فلسفة" لم ينصرف الذهن إلا إلى تلك المنظومة بعينها؟ حين نجيب عن هذا السؤال، ولا يمكن الإجابة عنه إلا بالنظر في السياق وقيوده، نستطيع أن نتفهّم موقف ابن تيمية من الفلسفة.

لماذا قسا ابن تيمية على "الرافضة"، وعلى "التتار" ؟ وقسا على النصارى، هل السبب –فقط– الخلاف الديني والعقائدي مجردًا؟ أم أن هناك أسبابا أخرى وراء هذا الهجوم الحادّ، قد تكون سياسيّة، أو اجتماعية؟

لماذا نال القول بخلق القرآن وخلق أفعال العباد نصيب الأسد من التراث الحديثي وبوبت له الأبواب؟ لا بدّ إذن أن ننظر في سياقه السياسي والاجتماعي والتاريخي، فنفهم ونعي، وهل ما قيل فيه خال من التهويل؟ وإن لم يكن خاليًا من التهويل والتضخيم والتزيّد، فلماذا؟

لماذا ظهر تيار التشيّع -مثلاً-؟ وما يندرج فيه –أو يحسب عليه- من القرامطة والباطنيّة؟ ما سر نشوء هذه الحركات؟ هل نزلت من المرّيخ؟ أم لذلك أسباب موضوعية؟ بل في تيّار التشيع ذاته؛ لماذا ظهرت مدرسة الأصوليين ومدرسة الأخباريين؟ ما الظروف الموضوعية التي أدّت إلى نشوء هاتين المدرستين؟

حتى الحركات الإسلامية المعاصرة، أأسباب ظهورها، وتشكّل منظومة أفكارها مدينة للتراث بما هو تراث وكفى الله المؤمنين القتال؟ أم لظهورها أسباب أخرى خارج التراث ذاته؟

ثم ظهور هذا الفصيل المعيّن، وتلك المجموعة المعروفة –داعش نموذجًا– ضمن التنظيمات الإسلامية، أكان سببه كتب التراث مثلاً حال كونه أفكارًا مجردة لعلماء معينين؟ أم هناك أسباب أخرى لا دخل لها بالتراث، ما لُجئ إلى التراث ولا انتُقيت منه أقوال لا تعبّر عن مشكلاتنا وقضايانا إلا لتبرير تلك الأسباب؟

والآن نشهد تيارًا إسلاميًا متلبرلاً، كما نشهد تيارًا سلفيًا يمارس النقد الذاتي، ويتجه اتجاهًا أكثر انفتاحًا، أسبب ظهور هذين التيارين الحديثين ليس إلا مراجعة التراث –حسبة لوجه الله الكريم-؟ أم للواقع ضغوطه، وللتغيّرات التي تجري في العالم تأثيرها؟

تلك الأسئلة وأشباهها مفاتيح، إن صحّ أن تكون مفاتيح، للفهم والتدبّر؛ أحسب أنها تجعلنا أكثر حريّة في تناول أقوال الرجال وأفكارهم، والمنظومات الفكرية القديمة التي تأسست عليها أفكار الطوائف الإسلامية ومتون عقائدها، وبناءً على هذا، لن يكون همّي إثبات أن ابن تيمية مثلاً متشدد أو متسامح، ولا أن الغزالي شاطح أو معتد، بل سيكون همّي تفهمهما، وأخذ العبرة والعظة مما قدّماه، وهذا – في رأيي– أعمق من مجرد محاكمة أقوالهما.

وأحسب كذلك، أنه لا بدّ من دراسة علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التاريخ جنبًا إلى جنب، مع كتب العقائد والفقه في الجامعات، فإن لم تدرّس تلك العلوم موادّ أساسية في الجامعات، فلا أقلّ من أن يتناولها الباحث الجادّ، ليكون بحثه في الخطاب الديني، والمنظومات العقائدية والفقهية أقرب إلى الواقع والفهم، وأبعد عن الاهتمام بالمحاكمة التي تقوم على أحكام القيمة (هذا صواب، وهذا خطأ، هذا حق، وهذا باطل).