&حسن أبو هنية

&تشكل الديكتاتورية تحديا أساسيا في مسيرة التقدم الديمقراطي، فعلى الرغم من التقدم الملحوظ الذي شهده العالم العربي في مسيرة التحول الديمقراطي في نهاية عقد الثمانينات من القرن المنصرم, إلا أن هذه المسيرة وصلت إلى طريق مسدود, وقد تباينت الاجتهادات التفسيرية حول حالة النكوص والتراجع والركود الذي أصاب عملية التحول الديمقراطي ولم تفلح هذه الدراسات في التوصل إلى أسباب حاسمة في التفسير والتحليل وذلك بسبب التركيز على المقاربات الثقافية أو الدينية في تفهم الظاهرة، ووصل الأمر لدى بعض الباحثين درجة من الوقاحة الإنكارية تتبنى وجهة النظر الاستعمارية الإمبريالية البالية، والتي تدور حول أطروحة عدم الاستعداد والقابلية المتأصلة لدى شعوب العالم العربي، وعجزها عن تمثيل نفسها بنفسها, وتعلق بعض المحللين بأسباب عنصرية بائسة ومفضوحة.

معظم الدراسات التي تناولت مستقبل الديمقراطية في العالم العربي تشكك في تحققها بسبب تنامي قوة وشعبية الحركات الإسلامية التي امتطت موجة التحول الديمقراطي واكتسبت قوة مضاعفة في شتى الميادين, وربما يكون هذا التقدم الإسلامي هو الذي دفع بالمفكرين وصانعي القرار في الغرب إلى التساؤل حول قابلية الشعوب العربية للديمقراطية، وبالنسبة إلى آخرين فان دمج الدين بالسياسة يتناقض مع الحكم المدني الديمقراطي, ومما لا شك فيه أن الانبعاث الإسلامي وظهور حركات الإسلام السياسي شكل تحديا خطيرا للنخب الحاكمة في معظم أقطار العالم العربي بعد أن حققت هذه الحركات تقدما ملحوظا في معظم الانتخابات التي أجريت على مدى عقود في الأردن واليمن والعراق والمغرب والجزائر ومصر وفلسطين, كما حققت الحركات الإسلامية حضورا بارزا كحركات معارضة في معظم الدول التي لم تتبن نهج المشاركة الشعبية كسوريا.

يعتبر التعريف الذي توصل إليه جوزيف شومبيتر للديمقراطية من أكثر التعريفات قبولا وانتشارا باعتبارها: «الإجراءات المؤسساتية المنظمة لعملية صنع القرارات السياسية, والتي يكتسب الحكام من خلالها قوة اتخاذ القرارات بالتنافس للحصول على أصوات الشعب» وبناء على هذا التعريف فان الديمقراطية أحد أشكال الحكومة الذي تتوفر فيه جملة من المعايير: كالمنافسة الحرة التي تتيح التداول السلمي للسلطة, والمشاركة السياسية وحق الانتخاب والاقتراع, وضمان الحقوق الإنسانية والمدنية مثل حرية التعبير والصحافة والانضمام إلي الأحزاب السياسية وتكوينها, ومساءلة الحكام وضمان حكم القانون, ويمكن الجزم بان هذه المعايير لا تنطبق بصورة كاملة على العالم العربي فالتحول الديمقراطي عملية انتقالية «تصبح من خلالها ممارسة السلطة السياسية أقل تعسفا وأقل استثناء للآخرين» كما يرى هدسن, ويفرق بعض الباحثين بين التحول الليبرالي والتحول الديمقراطي فيشير الأول إلى تغيرات تحد من سلطة الدولة في التدخل في حياة الناس ويسمح بالتعبير بحرية للمعارضة, أما التحول الديمقراطي فيشير بصورة خاصة إلى عملية التغيير تجاه الانتخابات الحرة والمشاركة الشعبية.

يشدد «هنتنغتون» على أن التحول الديمقراطي عملية مطولة وشائكة تبدأ بسقوط نظام حكم قديم وتقيم نظام حكم ديمقراطي وينتج في نهاية الأمر تثبيت دعائم وأركان النظام الديمقراطي, فالتحول الديمقراطي يتمتع بآثار بعيدة المدى أكثر من الليبرالية, أما الانتقال نحو الديمقراطية فيبدأ عادة عندما تتراخى القبضة المحكمة لأنظمة الحكم السلطوية, ويلاحظ أن الخطوات التي اتبعتها الأنظمة الانقلابية العربية لا زالت متواضعة وتقتصر على بعض الإجراءات الليبرالية التحررية مثل إعادة الحياة البرلمانية أو رفع الأحكام العرفية وهي لا تتعدى كونها مجرد إجراءات تحررية جاءت نتيجة للضغوطات المختلفة والأزمات العميقة التي طالت شرعيتها.

ركزت الاجتهادات المبكرة المتعلقة بالتحول الديمقراطي على معرفة واكتشاف الشروط المسبقة التي يفترض أن تتزامن مع الديمقراطية, مثل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافة السياسية وشرعية أنظمة الحكم والمؤثرات الخارجية, وتوصل «هنتنغتون» إلى سبع وعشرين فرضية يمكن أن تقود إلى الديمقراطية من أبرزها: ضرورة وجود اقتصاد سوق حر وطبقة متوسطة قوية ومستوى تعليمي عال وروح بروتستانتية وبنية ديمقراطية للسلطة داخل جماعات المجتمع ومستوى منخفض من الاستقطاب السياسي والتطرف وزعامات سياسية ملتزمة بالديمقراطية, وقد وجهت إلى هذه النظرية انتقادات حادة كشفت عن ضعفها المنهجي فإذا أخذنا معدلات الدخل المرتفع ومستويات التعليم العالي كمؤشرات على التطور الاقتصادي وارتباطها بالديمقراطية كنتيجة لعمليات التحديث.

الحقائق السياسية في الدول النامية تدحض هذا الادعاء, فالعمليات التحديثية الواسعة التي جرت في الخمسينيات والستينيات لم تؤد بالضرورة لعمليات التحول الديمقراطي, بل شهد العالم العربي في هذه الفترة ظهور أنظمة حكم سلطوية بشكليها الشعبي والمتوارث, ويمكن القول أن أكثر أنظمة الحكم العربية ينطبق عليها الوصف الذي وضعه هدسن لـ «دولة المخابرات» وهي الدولة التي تقوم على أجهزة الأمن وتعمل على أساس القمع والخوف وليس القبول الشعبي , وعلى كل حال فان عملية التطور الاقتصادي التي أوجدت نظام الحكم السلطوي والبيروقراطي كان لها دور حاسم في نشوء الحركة الديمقراطية التي هبت على العالم العربي أواخر الثمانينات من القرن العشرين فمن المعروف أن الاقتصاديات عندما تصبح اكثر تطورا وثراء تغدو مهمة الأنظمة السلطوية في المحافظة على السيطرة والتحكم أكثر صعوبة, فالتطور الاقتصادي يؤدي إلى الانفتاح السياسي إلا أن هذا التطور لا يستطيع تفسير الانتقال إلى الديمقراطية وحده فلا بد من توفر عوامل أخرى كالقيادة السياسية الفاعلة.

من أكثر المقاربات انتشارا في تفسير غياب الديمقراطية في العالم العربي، المقاربة الثقافية التي تركز على القيم والمعتقدات والمواقف, التي تحكم خصائص وصفات الشعوب العربية كالنفاق واللاعقلانية والأعراف المتعلقة بالشرف باعتبارها صفات وقيما تناقض الديمقراطية, ولا يخفى على أحد تغلغل الرؤية الاستشراقية والعنصرية التي تتحكم في هذه التحليلات والفرضيات فضلا عن نقاط ضعفها المنطقية والمنهجية, فمعظم هذه الدراسات تصر على أن المجتمع العربي يعاني من انقسامات لا يمكن إصلاحها وتصر على وجود عقلية عربية متماثلة تتسم بالجمود والانغلاق وتلقي باللوم على الإسلام باعتباره سببا في غياب الديمقراطية، لكن الحقيقة تشير إلى أن الديمقراطية ظهرت في أوروبا في ظروف بيئات أكثر تعقيدا من العالم العربي، وأن التحولات تتطلب إرادة للتغيير ومواجهة التحديات ومن أبرزها العقلية والممارسة الدكتاتورية.