& خالد يايموت

أعاد الهجوم الإرهابي المروّع الذي ضرب مدينة نيس الفرنسية وهي تعيش أجواء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، خلط أوراق السلطات الأمنية؛ كما أثار حفيظة الباحثين المختصين في تطور الفكر والممارسة الإرهابية في أوروبا والشرق الأوسط. ذلك أن محمد لحويج بوهلال منفذ العملية، لم يختر الساحة العامة لممارسة الفعل الإجرامي فقط، بل اختار قبل ذلك زمنا سياسيا يتعلق بذكرى تحيل على الثورة الفرنسية، وما تمثله من رمزية تاريخية وسياسية وآيديولوجية في الفكر الغربي عامة، والفرنسي على وجه التحديد. وتبعا لذلك، لم يكن من الغريب أن يوسم فعل الشاب الفرنسي من أصل تونسي بالإرهاب، وأكثر من ذلك وصفه الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند في كلمته للشعب الفرنسي «بالإرهاب الإسلامي»؟. وهو ما يعيد للأذهان حديث رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالس عن «فاشية الإسلامية» في أعقاب أحداث «الجمعة الأسود» يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهي أسوأ هجمات إرهابية انتحارية استهدفت فرنسا وراح ضحيتها 130 قتيلا و300 جريح، وتبنّاها تنظيم داعش الإرهابي.

يبدو أن تطوّر الأحداث الإرهابية منذ 2015 إلى حادث 14 - 7 - 2016 يطرح تحديات نوعية جديدة على النخبة السياسية والثقافية الفرنسية؛ ذلك أن سلوك مرتكب «جريمة نيس» الفظيعة محمد لحويج بوهلال الإجرامي، سواء كان بدوافع دينية متطرفة، أم بدوافع انتقامية من الدولة جرّاء ما يعتبره حيفًا مارسته الدولة بتدخلها في علاقته الزواجية، يعني أن السياسات العمومية والتدابير الأمنية والقانونية التي اتخذتها الحكومة واعتبرتها استعجالية لم تستطع بعد الحد من تسارع الضربات الإرهابية بالمدن الأساسية للدولة.

هذا الهجوم الأخير كذلك يعني أن استراتيجية التنظيمات الإرهابية، تجاوزت في حربها مع باريس أسلوبها التقليدي المعتمد على خطف الفرنسيين في بعض بلدان الصحراء الأفريقية، أو الهجوم على بعض مصالح باريس في أفريقيا والشرق الأوسط. فلقد استطاعت الحركات الإرهابية خلق جو من التعبئة الفكرية والعاطفية في صفوف الجيل الرابع من مسلمي الغرب عمومًا، ووجهته للدخول في مواجهة شاملة مع فرنسا داخل أراضيها، وفي أفريقيا للحد من النفوذ الفرنسي هناك.

وهذا المسار نفسه يفسر طبيعة التطور، واستعمال أدوات جديدة في المعركة بين الإرهابيين الجدد وباريس، كما يفسر لماذا ينتقل الإرهابيون الشباب من بلجيكا، مثلا، إلى فرنسا لتنفيذ أعمال إرهابية. ورغم أن هجوم نيس قد لا تتبناه أي منظمة إرهابية فورا (تبناه «داعش» لاحقا)، وقد يكون فعلا تصرفا منفردا لا علاقة لمنفذه بالممارسة الدينية، والمرجعية الدينية المزعومة لـ«داعش» و«القاعدة» وغيرهما، فإنه استطاع بصفتها ممارسة إرهابية تجاوز الارتباط المعنوي بالفكر «الداعشي»، ودخل في استراتيجية تنظيم البغدادي في علاقته بالغرب وفرنسا على الخصوص؛ وهي علاقة تقوم على استعمال كل الوسائل الممكنة لتحقيق أكبر أذى ممكن بالفرد والجماعة والدولة، ولو كانت السكاكين والشاحنة.

وكما كان متوقعًا، عادت النقاشات الحادة التي دشنتها حادثة «شارلي إيبدو» داخل النخبة بخصوص طريقة التعاطي الفرنسي مع هذه الظاهرة المركبة والمعقدة. فبعد ساعات قليلة من هجوم نيس، خرج جيل كيبيل، وهو أستاذ جامعي فرنسي متخصّص في الحركات الإرهابية، وصاحب كتاب «الرعب يحوم على فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» (غاليمار ـــ 2015)، ليوجه نقدا حادا للنخبة السياسية الفرنسية ويتهمها بالعجز، مؤكدا أن المعوّل عليه هو قدرة الشعب الفرنسي على خلق شراكة متينة تدمّر التحدي الإرهابي. وفي حواراته مع وسائل الإعلام الفرنسية يوم الجمعة 15 - 07 - 2016 اتهم كيبيل النخبة السياسية اليمينية واليسارية، باللجوء للمهاترات والغرق فيها، معتبرا الإنتجينسيا الحالية عاجزة وغير قادرة على التعامل مع الإرهاب المعاصر. ويرى هذا العالم السوسيولوجي المتخصص في الظاهرة الإرهابية أن هناك تغييرا جوهريا حدث في «البرمجيات» والخطط التي يتبعها الإرهابيون، وهذا ما يمنحهم فرصة السبق والتأثير الدموي، تاركين وراءهم تقليدية الوسائل الرسمية للدولة الفرنسية. بالنسبة لكيبيل، فإن الإرهاب يتجه نحو مزيد من البساطة في العمل، ولم يعد منشغلا بالقيام بعمليات بوسائل كبيرة، والبحث عن الأسلحة والمتفجرات التي لم يتم استعمالها كما هو الشأن بالنسبة لعملية «استاد دوفرانس». والمشكلة بالنسبة لجيل كيبيل أن السلطة السياسية بعيدة عن فهم ما يجري؛ ولذلك فهي تستدعي الاحتياط، مع أن الجميع يعرف أن قوات من الجيش والشرطة لقوا حتفهم، وأنهم كانوا هدفا للجيل الثالث من الحركيين المتطرفين، وإذا استمر الوضع على هذه الشاكلة، فالدولة ستتجه لاستنفاد قوات حفظ النظام، وهذا يعني بدوره تفكك عرى الشراكة الداخلية «ومن ثم وجب الاستعداد لحرب أهلية بين جيوب منطقية من مختلف الأديان».
رغم غرابة هذا الطرح، فإن هناك أملا لتحدي الظاهرة الإرهابية، ذاك أن الحل الذي يتبناه كيبيل يتلخص في «تعبئة المجتمع، وليس فقط الدولة الفرنسية التي تعرّضت لهجوم، وهذا ما يخلق ويحافظ على الشراكة الفرنسية في جوهرها وتعدّد مكوناته». وفي الوقت نفسه، يرى أنه لا بد من إعادة تشخيص الحالة والعودة إلى السياسات التي توفر الإدراك الحقيقي لطبيعة المعركة، مع تجاوز ذهنية الصفقات السياسية التي تنشغل بالحدث سياسيا بعد وقوعه وتستثمره آيديولوجيًا وانتخابيا في معارك حزبية.

أما بالنسبة لكميل أكغو، مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS)، فإن هناك عوامل تغذّي الإرهاب، وهي أقوى من السياسات الفرنسية نفسها. والإرهاب ظاهرة عالمية، والقوى الكبرى والدول الفاعلة بالشرق الأوسط تلعب دورا مهما ومتباينا في مواجهته. وهذا التباين واختلاف الاستراتيجيات الدولية وتباين مصالحها، يخلق هامشا واسعا لانتشار الإرهاب واكتساب متعاطفين ومجندين جدد.

لهذا يؤكد أكغو على ضرورة تجاوز الانخراط المحدود للولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الشرق الأوسط في الحرب على الإرهاب. ويقول: إنه لا مفر من تعاون فرنسي – روسي – أميركي وتركي – سعودي في هذا المجال، وبخاصة بعد تحولات «داعش» عامي 2013 و2014؛ وأن المواجهة يجب أن تكون داخل مناطق تجذُّر الإرهاب واستنباته في العراق وسوريا، وليس منطقة من مناطق التأثر به مثل فرنسا.

ولكن هذا التوجه يعارضه الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال أونفري؛ ففي مقابلة تلفزيونية على قناة «بي إف إم تي في» بعد أحداث باريس 2015، اعتبر أونفري أن ما تشهده فرنسا من تكرار الهجمات الإرهابية على أراضيها ناتج أساسًا من تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية لعدد من الدول التي تشهد العنف السياسي والصراع حول السلطة والثروة. وتساءل الفيلسوف الفرنسي «لماذا نختار دولا ضعيفة مثل مالي وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى للتدخل؟...المشكل ليس مشكل إسلام، بل هو مشكل عنصرية، ويجب أن نعترف أننا عنصريون. في حادثة شارلي إيبدو لماذا لم تقل الحكومة للصحافيين توقّفوا عن الإساءة لرسولهم في حين قالت لنفس الرسامين لما رسموا عن شعار اليهود إنه فعل مخجل لكم اعتذروا لإسرائيل؟؟».

من جهته، يعود بنا عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إمانويل تود للخوض في الوضع الداخلي الفرنسي، ليؤكد أن فرنسا تشهد انتشار الإسلاموفوبيا ومهاجمة الإسلام، نتيجة لما تعيشه من كآبة روحية ظهرت إثر التراجع الحاد للمسيحية؛ وما صاحب ذلك من ضمور واختفاء لأشكال الإيمان الميتافيزيقية الغيبية، وسيطرة الإلحاد، وانتشاره وسط النخب ومجالات تشكيل الوعي المجتمعي. ولذلك؛ يسهل مهاجمة الإسلام والحديث عن الإرهاب الإسلامي، والتخويف من المتدينين الفرنسيين. ذلك يقول عالم الاجتماع تود: «إن انحسار الدين يولد فراغا قاتلا وظواهر عنيفة تحاول ملء هذا الفراغ، وهذا ما يحدث حاليا في المجتمع الفرنسي». ويضيف تود في هذا الصدد: «إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا إلى توجيه سهام الكُره في اتجاه ما، وليس فقط خوفا من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حِكرا في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام».

عموما، تمثل العملية الإرهابية في مدينة نيس التي خلفت 84 قتيلا و100 جريح، حصيلة غير نهائية، واحدة من الانعطافات النوعية للأعمال الإجرامية ذات الصبغة السياسية. ورغم طابعها الفردي، فإن نتائجها السياسية، تجعل منها تحديا للنخبة السياسية الفرنسية، والمزاج العام الذي يميل لطروحات اليمين التي تؤمن بحتمية «الحرب مع الإسلام». فاستمرار محاولات استثمار الإرهاب لأغراض سياسية انتخابية سيكسب الفكر «الداعشي» وغيره أنصارا جددا في الجيلين الثالث والرابع من المسلمين الأوروبيين والفرنسيين، ويجعل من العنف السياسي والإرهاب ظاهرة غربية بامتياز.

&

&