&بكر عويضة

قبل واحد وأربعين عاما، كانت نيس أول مدينة أوروبية أزورها. حصل ذلك في الثاني عشر من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1975. كنت ضمن فريق صحافي ضم عددًا من العاملين في صحف العاصمة الليبية طرابلس. كان غرض منظمي الزيارة هو التعريف السياحي بالمدينة، التي وصلناها ليلاً، فإذا هي سابحة في بحر متلألئ من أضواء تسر الناظرين. ومع شروق شمسها رحت أجول في أحيائها، فلفت نظري أنها إلى جانب نظافة شوارعها، واتساع طريق كورنيشها، تتسم بتناسق ارتفاع أشجارها، وتناغم هندسة مبانيها، وبدا لي جمال نيس يستلقي بدلال على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكما أنغام ربيع أنطونيو فيفالدي، يعلو وينخفض موج شاطئها، ينادي الهارب من متاعب عمل شاق، والباحث عن هدوء أعصاب واستجمام، أن يأتي فيرتاح، حيث الترويح عن النفس متاح على أكثر من مستوى، كلٌ وفق ما يستطيع، فكيف إذنْ يحتاج، تساءلت حينها، كل هذا الجمال أي جهد للترويج له في أسواق السياح. تساؤل ساذج، بالطبع، إذ أينها السلع التي تستغني عمّن يبيع للناس ما يجمّلها، حتى لو أنها بدت أحلى من التغني بها، كما هو حال عروس الريفييرا الفرنسية وعاصمتها، بل إن بضائع نشر الخراب، كما الإرهاب، تحتاج هي أيضا أدوات ترويج وتسويق.

هل خطر لي، زمنذاك، أن يومًا سيأتي فأتابع كيف فُجع ملايين البشر في جهات الدنيا الأربع، لمنظر شاحنة تغوّل الشر فالتهم نفس سائقها، وسيطر عليها لينطلق بها تدهس أجساد المحتفلين بيوم الباستيل، وبينهم أطفال لم يعرفوا بهجة الحياة بعد، فتسحقها سحقا، ومعها تنسحق بجوارهم دمى بدت هي الأخرى كأنها لحم نُهِش، ودمٌ ينزف على جنبات كورنيش نيس المسمى باسم الإنجليز (promenade des anglais)؟ كلا، لم يخطر توحش كهذا بالبال، رغم كل ما حصل من جرائم دُمى إرهاب فاق في فظائعه كل خيال.

عائدًا من لقاء مع أصدقاء بعد منتصف ليل الخميس الماضي، أخذت أستمع إلى نقاش عبر محطة «إل بي سي» اللندنية كان يدور حول فظاعة ما جرى، وفظائع ما يُرتكب من جرائم إرهاب يُعطى هوية الإسلام. وكما في سابق المرات، تطوع عدد لافت من المستمعين، بينهم مسلمون وغير مسلمين، للتفريق بين مبدأ التدين وجُرم القتل باسم الدين. ذلك الجهد المهم موضع تقدير، وهو بلا جدال مطلوب. لكن صار من المنطق، في تقديري، القول إن الأمر تجاوز مجرد تكرار أقوال لم تعد كافية للرد على حيرة كبرى تعلو الوجوه، كلما صدعت وسائل الإعلام بفظاعة جديدة تنتسب للإسلام، فتنطق الألسنة متسائلة: ماذا يريد هؤلاء من مجتمعات وُلدوا فيها ونشأوا. تساؤل منطقي. وعلى رغم كل ما يقال عن دور عوامل الفقر أو البطالة والتهميش، يظل أن مرتكبي تلك الجرائم مسلمو الديانة، ويظل أنهم شبّوا ضمن أجواء أفضل من ظروف أترابهم بالوطن الأصل. لقد بات من الواضح أنه مع أهمية التذكير بأن الإسلام دين متسامح، فهو وحده لم يعد يكفي، ليس فقط لإقناع الأوروبيين أو غيرهم، وإنما الأخطر أنه ما عاد كافيًا ليقنع شرائح معتبرة بين الأجيال الشابة للمسلمين أنفسهم، وخصوصًا في مجتمعات الاغتراب بقارات العالم الخمس. إن مجرد التأمل في تمكن «داعش» من الوصول إلى شبان لا يشكون أيًا من تلك العوامل، كما حصل مع منفذي جريمة مقهى دكا، عاصمة بنغلاديش، مطلع الشهر الحالي، يكفي سببا لإعادة النظر في سبل التصدي وأساليبه.

ربما بات ضروريًا إشراك مؤسسات مرجعية من الدول العربية والإسلامية في البحث عن العلاج. ربما أيضًا آن أوان الاعتراف بأن الاكتفاء بالإدانات اللفظية إزاء إرهاب الجماعات الجزائرية المسلحة مطالع تسعينات القرن الماضي، الذي لم ينج من فظائعه جزائريون وأجانب، بينهم أطفال ونساء ورجال دين، يُسهم الآن في تسهيل بيع توحش الإرهاب وتسويق بضاعته بين أوساط جيل الشباب المُحبط. وإذا كان إرهاب «داعش» دخل مرحلة تنشيط «مجموعات ذئاب» ستكون أكثر خطرًا من «الذئاب المنفردة»، وفق قول خبير بأهمية بروس ريدل في حوار مهم أجرته هدى الحسيني معه («الشرق الأوسط» – الخميس الماضي)، فحري بذلك التنبيه أن يقرع الأجراس في كل العواصم المعنية بأن الآتي أفظع، ومن الواجب أن يسارع المعنيون لوضع خطط توقف ذلك الخطر قبل أن يستفحل أكثر.

سلام إليك نيس، وإلى كل من اكتوى بآلام إرهاب أدمى الأنفس وأزهق الأرواح، حيثما حل، بأي زمان أو مكان، وأيًا كان الدين الذي باسمه يقتل الأبرياء من أي عرق أو دين.
&&

&