&بكر عويضة&&
تكرّم الأديب الليبي رجب الشلطامي فعقب بما يلي: «... وما زال لك فيها أصدقاء يقدرون ذلك ويحترمون تلك الأيام». وردت تلك الكلمات تعقيبًا على ما تضمنته مقالتي هنا الأربعاء الماضي تحت عنوان: «ليبيا.. مأساة لم تنتهِ»، وقلت فيها إن «لليبيا، من جانب شخصي، مكانة الوطن الثاني في القلب والروح بعد فلسطين، إذ فيها أمضيت ربيع العمر، وبين مطابع صحفها وروائح حبرها، تفتح زهر درب تجربتي الصحافية». كلمات صديق أيام دار «الحقيقة»، في ظل رائديها الراحلين الكبيرين؛ محمد ورشاد بشير الهوني، شكلت دافعًا للعودة لموضوع لم يوفَّ ما يستحق من بحث. أعني مسلسل الحدث الليبي المتواصل منذ ما بعد الاستقلال. صحيح أن كلامًا كثيرًا قيل وأذيع وكُتب، إنما تبقى غير رواية ليبية لم تروَ بعد. حسنًا، ربما القول الأدق هو إن فصول ما شهدت ليبيا من أحداث جِسام تظل بحاجة إلى استكمال. ثم إن ما رُوَي حتى الآن، رغم أهمية قليله، لم يُدقق على نحو يضع جانبًا هوى الذات، ويصرف بعيدًا تغول «أنا» الشخص، فيتحرى التفاصيل بصدق المؤرخ وحرصه على التثبّت من الحقائق وتثبيتها، وليس بهاجس بعض كتّاب السيّر الذاتية المهجوسين فقط بتعظيم الذات وتهميش ما عداها.
في سياق متصلٍ يمكن سوق التساؤل التالي: هل أن خفايا تمكّن معمر القذافي من إطاحة الحكم الملكي رُويت بكامل تفاصيلها ومن دون إقحام أي هوى شخصي في الرواية؟ الإجابة الأرجح هي: كلا. صحيح أن كثير كلام تردد بشأن دورٍ ما أداه ديفيد دنلوب نيوسوم، سفير الولايات المتحدة الأميركية في طرابلس آنذاك، لكن يصح القول كذلك إن ما قيل لم يُسند بما يكفي من توثيق، ولعل التوثيق الأهم هنا كان استنطاق السفير نيوسوم ذاته قبل وفاته (30 مارس (آذار) 2008)، ذلك أن سوق الأدلة في سياق إثبات فرضية ما، يجب ألا يكتفي بتحليل يقوم على تكهنات، أو يستند إلى إحساس أو حدس.
أتذكر، كما كثيرون غيري، جلسة التلفزيون السنوية لذكريات معمر القذافي وصحبه، عن ليلة انقلاب 1969. تلك «الدردشة»، بكل ما صاحبها من «قفشات» وضحكات، تبقى حية في الذاكرة، لأنها، منذ بدأت تتواصل بعد العام الثاني لاحتفالات الثورة، بدت كأنها مقصودة للرد على أي شبهات تحوم حول ما جرى تلك الليلة. الحق أن مجريات ليلة تحرك العقيد ورفاقه لم تكن تدعو للتندّر والضحك، فقد كان من المحتمل أن يُقتلوا جميعهم ليلتها، إلا إذا كان ما خفي من أسرار ليلة العقيد ورفاقه الضباط يوجب بالفعل الضحك على صفاء نيّات الشعوب ونقاء سريرتها، إذ هي تُصدق كل ما يُقال لها، وتأخذ أي كلام يُساق عبر وسائل إعلام أهل الحل والربط مأخذ جدٍ لا يحتمل أي هزل. على سبيل المثال، لقد تردد أكثر من تفسير بشأن تسمية العقيد سعد الدين أبو شويرب قائدًا للانقلاب، وتناول غير تحليل ما يخص التنافس البريطاني - الأميركي - الفرنسي على النفوذ في ليبيا ما بعد رحيل الملك إدريس السنوسي في حال تُوفي وهو في الحكم. الموثق في هذا السياق هو رفض لندن التحدث مع السيد عمر الشلحي، مستشار الملك زمن ذاك، بشأن تنفيذ معاهدة دفاع مشترك بين البلدين ومن ثم إفشال الانقلاب.
خلاصة ما سبق هي أن «فاتح سبتمبر» القذافي رواية لم تروَ بكاملها بعد. ما جرى قبلها، وما وقع خلالها، وما حصل للخلاص منه ومنها. الأرجح أن زمنًا طويلاً سيمر قبل أن تتضح الصورة بزواياها كافة. كذلك الأمر فيما يخص ما تبع انتفاضة السابع عشر من فبراير (شباط) 2011 العفوية، وكيف صارت رواية دموية لم تروَ تفاصيلها بالكامل بعد.
مختتمًا حوارًا استغرق ست ساعات ونصف الساعة، وكان حصاده على الورق سبعة عشر ألف كلمة، كانت مفاجأة مشاري الذايدي السؤال التالي: هناك طائرة تنتظر الآن لتحملك إلى ليبيا، ولك اختيار وجهتك الأولى، طرابلس أو بنغازي، فماذا تختار؟ بلا تردد أجبت: بنغازي. حصل ذلك في مثل هذا الشهر قبل خمس سنوات، بعدما وافقت للكاتب الصحافي المجدد، الذي كسبته أعمدة الرأي وخسرته الصحافة الاستقصائية، والحق أنه تحمّل ترددي بصبر دؤوب، على تسجيل انطباعات عن تجربتي في الصحافة الليبية. تدقيق ذلك الحوار وإعداده للنشر لا يزال ينتظر اقتناعي بأنه يجوز لي الحديث عن صحافة ليبيا قبل صحافيين ليبيين بارزين، هم وهن أولى بالحديث عن صحافة بلدهم وأجدر. تلك أيضًا رواية لم تروَ بعد، وذلك انتظار قد يطول.
&&
التعليقات