&رضوان السيد

لا أقصد بالحق والباطل في هذه المداخلة الشأن الديني، بل الحق والباطل في السياسات الوطنية والقومية في العالم العربي اليوم. فقد شهدت عدة دول عربية في الأسابيع الأخيرة مشكلات تستدعي سؤالاً عن الحق والباطل في هذه الدعوى أو تلك، وأود أن أضع في مقدمة مشكلات التحديد مقولة تيار الجنرال عون في لبنان أنه إن لم يوافق خصومه السياسيون على اختياره لرئاسة الجمهورية، فإن ذلك يُعتبر إخلالاً بالميثاقية. وهم يعنون بالميثاقية التعاقد الوطني الأصلي على إقامة الدولة اللبنانية بين المسلمين والمسيحيين. ولأن رئاسة الجمهورية من حق المسيحيين الموارنة، ولأن عون هو في نظر نفسه أقوى المرشحين من حيث الشعبية بين المسيحيين، فإنه إن لم يجر اختياره للرئاسة من جانب نواب البرلمان، فذلك يعني إخلالاً بالعهد الوطني وبحقوق المسيحيين! وقد يكون صحيحاً أنّ عون هو أقوى المرشحين بالفعل، لكن الطريقة الدستورية الوحيدة لتبيُّن ذلك تكون بالاحتكام إلى مجلس النواب، والحصول على الأكثرية فيه، وبخاصة أن الرئيس اللبناني لن يكون رئيساً للمسيحيين فقط، بل لكل اللبنانيين. فالرئيس القوي هو الذي يحظى بالأكثرية في مجلس النواب المكون من مسيحيين ومسلمين. فما يبدو أنه الحقّ (أكثر من نصف المسيحيين يؤيد عون للرئاسة)، يصبح باطلاً ومثيراً للفوضى في الداخل الوطني، إن لم يحظ بدعم نسبة معتبرة من النواب المسلمين. وكذلك الأمر بالنسبة لرئيس الحكومة السني، ورئيس مجلس النواب الشيعي. فكلٌّ منهما يحتاج لأكثرية بمجلس النواب لتولّي منصبه. صحيح أنّ السنة لهم حقوق باعتبارهم فئة من فئات الشعب اللبناني، وكذلك الشيعة والمسيحيون، لكن العيش معاً في وطن واحدٍ يتطلب توافقاً لا انقساماً، وآليات لتحقيق هذا التوافق ولضمان المشاركة والحقوق.

ولنذهب من لبنان إلى ليبيا، إذ ما أمكن التوافق بين الشرق والغرب الليبيين على المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق. وبدا المجتمع الدولي منحازاً إلى الغرب، مع أنّ أكثرية البرلمان المنتخب، ومعظم الجيش الوطني في الشرق. وقد حاولت حكومة الوفاق الحصول على شرعية وطنية بمقاتلة «داعش» في سرت. ورد البرلمان والجنرال حفتر باحتلال الموانئ النفطية في أواسط البلاد وشواطئها للضغط على الغرب. وقد غضب الدوليون وغضبت الميليشيات الداعمة لحكومة الوفاق. لكنْ ماذا كان بوسع الشرقيين والبرلمان فعله وسط هذا التجاهل، وأنصاف المحاولات الوفاقية؟ ما كان ينبغي بالطبع استخدام القوة لتحقيق مطلب هو في الحقيقة مطلبٌ وطني. بيد أنّ هذا الخطأ، ولا يُسوِّغ استمرار استئثار الجهات الغربية بالسلطة رغماً عن البرلمان وعن الجيش. ولذا فإن هذا الحق المنقسم لا علاج له إلا بالتصحيح الذي يؤمِّن مشاركةً عادلة من جهة، وإعادة الاعتبار للبرلمان وللجيش الوطني تمهيداً لانتخابات جديدة.

في لبنان وليبيا لا يزال الداخل يلعب دوراً معتبراً رغم التدخلات الخارجية. ولذا تبدو المقترحات سهلة نسبياً في التقريب بين أطراف الحق المنقسم، وبخاصة عندما يتبين لسائر الأطراف أن أحداً لن يستطيع فرض رأيه بالقوة المسلَّحة. والوضع ليس على هذا النحو على الإطلاق في سوريا. حيث تنتشر ميليشياتٌ وجيوشٌ بعشرات الآلاف على الأرض السورية، وبعضها تكوَّن أو جاء لمساعدة الأسد، وبعضها الآخر تكون أو جاء لمساعدة خصومه. وقد انتهى الأمر أخيراً بانضواء أنصار الأسد تحت راية روسيا، وانضواء خصوم الأسد تحت راية الولايات المتحدة. ولأنّ الفوز الكامل لأحد الطرفين غير ممكن، فقد صار واضحاً أنّ حلَّ المشكلة المستعصية والمكلفة دماً ودماراً وتهجيراً تتطلب توافقاً روسياً أميركياً. وقد ذهبت الأطراف من قبل إلى مفاوضات سياسية برعاية الطرفين، كما حصلت هُدَنٌ برعايتهما. بيد أن أي تقدم لجهتي وقف القتال، والدخول في مرحلة انتقالية، لم يحصُلْ. فأين الحق وأين الحقيقة؟ الحق في وقف القتل والقتال، ووحدة الأرض السورية، واستعادة نظام الدولة وإدارتها. ولا يبدو أن الأطراف الحاضرة على الساحة مستعدة لذلك. والذي أراه أنّ ذلك لا يعود لتعنُّت الأسد أو شراسة الإيرانيين والروس فقط، بل ولأنّ العرب، أصحاب المصلحة في بقاء سوريا وشعبها، غائبون ومختلفون. إنّ الباطل هو ما يحصل من تغييب للشعب السوري، لأشقائه العرب، أما الحق فهو في الحضور العربي لمصلحة سوريا والعرب!