& صالح محمد سويسي

يقصد أرخبيل الجزر العذراء في تونس آلاف السياح من عرب وأجانب خلال فصل الصيف، للاستمتاع بالطبيعة الخلابة والمهرجانات المستمرة التي يستضيفها.

هذه الجزر التي احتضنت هنبعل ذات هروب، ومنها انطلق الزعيم الخالد فرحات حشّاد في صراعه مع المستعمر الفرنسيّ قبل أن تغتاله اليد الحمراء ليترك خلفه أهمّ تجمّع عمّالي في المنطقة العربية، وفيها أيضاً اختبأ الحبيب بورقيبة أياماً طويلة قبل أن يشدّ الرحال بحراً إلى ليبيا ومنها إلى القاهرة للتعريف بالقضيّة التونسية.

في تلك الجُزر التي تُصبح خلال أشهر الصيف مقصد الآلاف، تقام المهرجانات هنا وهناك، وتنتشر الموسيقى والإيقاعات تحت النخيل وبين شباك الصيّادين. وفي سياق تواصل فاعليات «صفاقس عاصمة الثقافة العربية 2016»، شهد الأرخبيل فاعليات كثيرة كان آخرها تظاهرة كبيرى احتفلت بالطبل وأقامت له عرساً.

&

عرس الطبل

في إطار مشروع «المسارات والمزارات» وهـو مـن المشاريع المهمة في بـرمـجة عـاصمة الثقـافـة العربـيـة، أُقيم مهـرجـان جمع بين الطرافـة والجماليــة وكرّس الأصـالة والتجـذّر فـي عمق الموروث الحضاري والإنساني، حيث تابع الجمهور عدداً من العروض الفنيّة والمعارض والفاعليات التي تصبُّ كلّها في التعريف بتراث الأرخبيل وحضوره في عمق التاريخ الإنساني.

وتعيش المزارات والمواقع الثقافية والأثرية والتراثية التي يزخر بها الأرخبيل أجمل فتراتها وانتعاشتها القصوى خلال فصل الصيف، وهي فرصة لإبراز عمق التراث المادي واللامادي فيها.

وسط ساحة بلدة أولاد يانق في جزيرة قرقنة وفي حضور جماهيري كبير، نظمت فاعليات الدورة الثالثة من «مهرجان القُلَّة» وهو مهرجان يعتمد أساساً على فنون الشارع والقرب أكثر من الجمهور، من خلال تقديم عروض فولكلورية من التراث الشعبي المحلّي.

ولأنّ أولاد يانق منطقة بحرية تحتلّ موقعاً استراتيجياً في الأرخبيل، والبحر جزء من الذاكرة والتراث القرقني، فإنّ المهرجان تضمّن معرضاً للحِرف والمنتوجات التقليدية المصنوعة من سعف النخيل، فضلاً عن الأنسجة التقليدية مع عرض بعض الأكلات التي تختصُّ بها الجزيرة والتي تُصنع في المنازل وتعتمد منتوجات النخيل كمواد أولية لها، إضافة الى معرض خاص بآلات الصيد والفلاحة القديمة ومستلزماتها.

ومن الفقرات التي كان لها أثر كبير، وجمعت حولها الآلاف، سهرة تحت عنوان «عرس الطبل»، اذ تنافست فرق فولكلورية من قرقنة ومن الجنوب التونسي على تقديم وصلات غنائية من الفولكلور والتراث الشعبي.

وللطبل في جزيرة قرقنة حكايات تطول، وله مع الناس والحجر تاريخ طويل وقصص يحفظها الصغار قبل الكبار، وشهرة «طبّال قرقنة» ضربت الآفاق ووصل صيته إلى كثير من دول العالم.

والطبل في قرقنة، ليس مجرد آلة إيقاعية تضفي أجواءَ السعادة والبهجة على الأعراس والمناسبات العائلية والوطنية بتقديم إيقاعات محليّة أصيلة ومتجذّرة في التاريخ بمرافقة آلة «الزكرة» (الغيطة)، بل يتجاوز ذلك ليكون جزءًا من الحياة اليومية لكل «قِرقني»، وهو أيضاً تاريخ وأيام تداولها الناس منذ زمن بعيد، ما جعله يبقى حالة عشق متبادل وتأصيلاً لعلاقة الإنسان بالفن...

وتضمّن برنامج المهرجان أيضاً فقرة من العرس التقليدي المحلّي تُسمّى بـ «الهروب القرقني» وهي الليلة التي تسبق ليلة الدخلة مباشرة وتمتاز بما يتمّ تقديمه من أغانٍ فولكلورية من جانب فرقة نسائية، كما تلبس كل الحاضرات ومن مختلف الأعمار الأزياء التقليدية.

&

قُفَّة البحر

ومن فقرات المهرجان التي طبعت تجذّره وتأصّله، الرحلة البحرية على متن مراكب الصيد الشراعية تحت اسم «قُفَّة البحر» وهي الملحمة اليومية التي تكشف عن جزء من شخصية الإنسان في قرقنة، بجولة بين المواقع الأثرية في الجزيرة تسهم في تشكيل اللوحة الفسيفسائية القرقنية لأرض سكنها النوميديّون والرومان والإسبان والنورمان وتشهد على ذلك القبور والسراديب وبرج ملّيتة وبرج الحصار.

ويعتبر برج الحصار الموقع الأثري الأبرز في الجزيرة والمصنّف من المواقع المهمّة بالنظر الى الحفريّات التي كشفت بجواره عن ميناء كبير مرَّ به القائد القرطاجنيّ هنبعل في رحلة فراره عبر البحر ولهذا المرور حكايات تُرْوَى تعتمد أساساً على صخرة «البُو» وهي الصخرة الباقية من الموقع الذي وقف فيه حنّبعل مخاطباً جنده ومن سانده من أهل الجزيرة حتى يخرج منها يسلام وفي هذا تُروى حكايات دوّنتها الكتب والذاكرة الشعبية.

أما نمط العيش والتراث المادي لأرخبيل قرقنة فقد حفظت الكثير منهما طبيعة الحياة اليومية في الجزر، ونجح متحف العبّاسية في جمع جزء كبير منه وتشخيصه في لوحات تحاول الاقتراب في أدقّ تفاصيل حياة «القرقني» في البر والبحر، الأمر الذي اشتغل عليها طويلاً عبد الحميد الفهري الباحث في ثقافة الجزر.

وتبقى قرقنة نجمة أرخبيل الشواطئ العذراء، حيث كل المسالك تؤدّي إلى البحر، وتطلُّ في كل ركن منها أسطورة وحكاية، ويرتفع مقامُ وليّ وتمتدّ المياه فوق المياه لتشكّل لوحات بهيّة بين زرقتيْن، ولتصبح تفاصيل الحياة اليومية مخزوناً تراثياً يشكّل الحاضر ويبشّر بالآتي.