محمد المزيني

احتفظت لنا أدبيات التاريخ السياسي بملفات العلاقات السوفياتية وتالياً الروسية بدول الشرق الأوسط، وبمجرد قراءتنا لهذه الملفات سنكتشف أنها قوة ضاربة تخلو من سياسات منطقية وعقلية سليمة، في علاقاتها مع الآخرين، فهي تقترب من أهدافها حتى يصيبها الحول الذي يخرج الرمية خارج مرمى التسديد، ويخرجها دائماً في نهاية المطاف خاسرة بامتياز، وفي كل مرة تخرج مهزومة من ملعب كان متاحاً لها بالكامل برزايا تكبدها خسارات فادحة.

ففي أفغانستان لم تقاوم طويلاً، إذ هزمت وأخرجت منها «بتكتيكات» أميركية عالية الدهاء المصحوب بالتقنية، إذ استطاعت تأليب المسلمين الغيورين عليها، واستنهاض قيمة الجهاد وإشعال جذوتها بالصدور، بدعم وتموين متعدد المصادر، فاستطاعت اكتساح القوات السوفياتية التي كانت تعتبر القوة الضاربة التي يستحيل هزيمتها إلا بقوة مماثلة، ومع ذلك لحقت بها مهانة الهزيمة، وخرجت صاغرة تلملم أشلاءها ونكستها التاريخية.

لم تكن محاولة إعادة البناء «البيريسترويكا» المتضمنة مشروعها الشامل للإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حينها كافية لغسل العار الذي لحق بها، ولا لترميم بنائها المنهك، فانهار الاتحاد السوفياتي وتفكك عام 1991 وتهاوت كل الجدر العازلة، وتحررت الدول المتورطة من قبضة الدب الروسي، لتنأى روسيا بنفسها محاولة ترقيع الشقوق التي ألحقتها بها كل معاركها الخاسرة، بدءاً من الحرب الباردة وانتهاءً بطردها من أفغانستان، في محاولة لاستعادة هيبتها من خلال خلق أجواء مفعمة بالحرية والتعددية.

اليوم نكتشف أن روسيا تخوض نفس تجاربها العسكرية السابقة مع تعديل جذري في المشهد، هو أنها قديماً كانت تعد إمبراطورية ثانية مع الولايات المتحدة، وكانت تحاربها أو تنازعها للتحكم بأجزاء من العالم وثرواته من خلال هذه الهيبة.

اليوم تدخل روسيا أتون المعارك بذات النزعة التاريخية القديمة، إذ أثبت لنا التاريخ أن العقيدة الشيوعية ومناهجها المنظمة بدءاً من الأيدولوجيا وانتهاء بالالتزام، أكبر خدعة انطلت على العالم، إذ سريعاً ما تخلت عن حلفائها، وبالأحرى باعتهم بحفنة مصالح، كما حدث مع شيوعيي العراق الذين اختطف حزب البعث العراقي أرواحهم في عملية اغتيالات منظمة ما بين 1973 و1976 من دون أن يرف جفن للاتحاد السوفياتي الذي استمرأ علاقاته الجديدة مع النظام العراقي آنذاك بحفنة عوائد من عقود التبادل التجاري مع العراق، تلك التي تضاءلت لاحقاً إلى أقل من 2 في المئة بسبب سوء الإدارة السوفياتية لتعهداتها والتزاماتها الخارجية الملتبسة بالبلادة والاسترخاء، مما دفع بحلفائها العراقيين للتوجه نحو القبلة الغربية، وتنفتح عليها من أوسع الأبواب.

تحاول روسيا اليوم بعد 25 سنة مرت خلالها بعدد من المراجعات أن تعيد برمجة علاقاتها بمراكز القوة العالمية، وتخوض معركتها على هوى الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط المرتبطة بالأطماع الغربية، مقتربة من مراكز النفوذ الاقتصادية الشرق أوسطية في محاولة للخروج من مآزقها الاقتصادية والحصار المفروض عليها، ونقل الصراع الأميركي - الروسي من قلب أوروبا الشرقية إلى قلب العالم العربي لمقاربة ارتباطاتها ومصالحها مع حلفائها (سورية، إيران)، وقد يكون للمفاوضات الأميركية - الإيرانية حول المفاعل النووي الإيراني الذي انفتح على مصراعيه وانتهى بالاتفاق التاريخي المتضمن حق إيران بامتلاك برنامج نووي أعاد إلى روسيا الحليف الأكبر لإيران الأمل بمشاركة فعلية على الأرض ما دامت المصالح المشتركة تقاطعت بشكل يقترب من التفاهم، قد نفهم من ذلك سياسة الانفتاح العربي على روسيا والذي أسفر عنها حزمة من الاتفاقات منها الاستراتيجية السعودية - الروسية، على رأسها اتفاق تعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري والتعاون في مجال الفضاء، إضافة إلى اتفاقات تعاون في مجال الإسكان والطاقة والفرص الاستثمارية، منها عودة تركيا لفتح ملف العلاقات الاقتصادية معها باستكمال اتفاق مشروع خط أنابيب الغاز ستمهد إلى حزمة أخرى من الاتفاقات الاقتصادية بينهما، إلا أن ما يمكن إفشال كل هذه المشاريع وسحب البساط منها ويعزى ذلك إلى طبيعة السياسة المركزية التي تدار بها روسيا حتى طغى التذمر الشعبي وعلا صوته جراء تدني مستوى انخفاض الأجور وارتفاع معدلات الضرائب والبطالة.

الشعب الروسي الذي يسعى بوتين من وراء حروبه لأن يصبح ذات يوم قوة عسكرية عظمى تعيده إلى مجده الآفل من دون مراعاة لواقع شعبه المتأثر بهذه السياسة المتعجرفة التي حالت دون رفع العقوبات الغربية، وهذا بدوره سيفشل أي محاولة للنهوض بالاقتصاد. يقول نائب الرئيس السابق للبنك المركزي الروسي الباحث في معهد بروكينغز سيرجي أليكساهينكو حول الآثار المحلية والدولية لضعف الاقتصاد الروسي وليس سراً في حوار له مع موقع WorldPost: «إن روسيا في حاجة إلى الكثير من المعدات الغربية ورأس المال الغربي لتحديث اقتصادها. ليس المال، فحسب، ولكن أيضاً التكنولوجيا والدراية والمهارات الإدارية. وإذا كانت المخاطر السياسية من ممارسة الأعمال التجارية في روسيا لا تزال مرتفعة، فهذا يعني امتناع الشركات الأجنبية عن الاستثمار في روسيا. ومن شأن هذا أن يبقي معدلات النمو الروسية منخفضة، حتى لو تعافت البلاد من الركود. هذا قليل جداً بالنسبة للاقتصادات الناشئة، وهذا يعني أن حصة روسيا في الاقتصاد العالمي ستنكمش، وستتسع الفجوة التكنولوجية بين روسيا والدول المتقدمة».

لهذا مهما بلغت طموحاتنا الاستثمارية في روسيا فإن واقعها البائس لا يساندها، فعبدالمعين محتاج إلى من يعينه، ولكن ليس قبل أن ينتشل نفسه من بؤر الصراع والحروب.

&

&