&أحمد عبدالمعطى حجازى

من واجبنا أن نتابع مايدور فى العالم من حوار حول الإسلام والمسلمين عامة، وحول أوضاعهم الراهنة خاصة فى داخل بلادهم وخارجها، وماتثيره هذه الأوضاع هنا أو هناك من مخاوف وتطرحه هنا أو هناك من أسئلة فى مقدمتها السؤال عن وضع المسلمين فى أوروبا، فى الحاضر وفى المستقبل.

ونحن نعرف أن المسلمين فى أوروبا يعدون الآن بعشرات الملايين، ونعرف أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يجدوا لأنفسهم مكانا يوفقون فيه بين كونهم مسلمين وكونهم أوروبيين، وأن المخلصين منهم للإسلام كما يفهمونه منعزلون يرفضون الاندماج فى المجتمعات التى يعيشون فيها، وأن الآخرين الذين يجدون الطريق مفتوحا أمامهم للاندماج يعتقدون أن هذا الاندماج سوف يبعدهم عن أصولهم ويجردهم من خصوصيتهم. وهذا ما يعرضهم للتمزق والشعور بالذنب ويحرمهم من المشاركة الفعالة فى نشاط الأوروبيين.

ونحن نعرف أن وجود المسلمين فى أوروبا يثير لدى الأوروبيين فى المقابل أسئلة وردود أفعال مختلفة. بعض الأوروبيين يرون أن وجود المسلمين فى بلادهم حقيقة واقعة وتطور منطقى لما شهدته أوروبا والعالم الاسلامى والعالم كله خلال القرون الأخيرة من أحداث ووقائع لعب فيه الأوروبيون والغربيون عامة الدور الأول، وصنعت هذا العالم الذى أصبح بالفعل قرية كونية تواصل فيها الجميع ولم يعد هناك حد فاصل بين جنس وجنس أو بين ثقافة وأخرى.

وهل كان باستطاعة المغاربة الذين عبروا البحر إلى فرنسا أن يكونوا فيها اليوم إلا لأن الفرنسيين عبروا هذا البحر ذاته منذ قرنين إلى الجزائر ليحتلوها وينتقلوا إليها بمئات الآلاف ويضعوا أيديهم على ثرواتها؟ ثم عبروه بعد ذلك إلى تونس والمغرب؟

لكن بعض الأوروبيين يرفضون الاعتراف بهذه الحقائق، ويعتقدون أن الأجانب عامة والمسلمين خاصة خطر يهدد أمنهم ويتعارض مع المبادئ والنظم والقيم السائدة فى بلادهم. وهذا هو الموقف الذى يتبناه اليمين الأوروبى بصوره التى لايخلو بعضها من عنصرية سافرة.

فى مواجهة هذه الأوضاع المتوترة كيف يكون الحل؟

الحل المنطقى هو الاندماج الذى يجعل المسلمين فى أوروبا مواطنين أوروبيين لهم الحق كغيرهم فى ممارسة عقائدهم الدينية والتمسك بثقافتهم الأصلية مع احترامهم للمبادئ والقيم الأوروبية التى تعتبر الدين علاقة بين الانسان وربه لاشأن للدولة بها. فإذا كانت جماعات الاسلام السياسى لاتزال فى فهمها للاسلام تخلط بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة، فعلى المسلمين فى أوروبا أن يحترموا مبدأ الفصل وأن يجتهدوا فى الوصول إلى فهم جديد للاسلام، أو إلى إسلام أوروبى تتصالح فيه مبادئ الاسلام وعقائده الأساسية مع مبادئ الأوروبيين وقيمهم. وهذا ما دار حوله حديثى خلال الأسابيع الأربعة الماضية، وما شارك فيه آخرون فى فرنسا وفى مصر فى مقدمتهم الأستاذ مكرم محمد أحمد الذى تساءل فى عموده المنشور يوم الأربعاء الأسبق: هل هناك إسلام فرنسى له ملامحه أو مواصفاته الخاصة التى تميزه عن الاسلام السنى أو الاسلام الشيعى؟ أم أن ثوابت الاسلام الراسخة تجعل منه دينا واحدا؟

ونحن نرى أن السؤال يتضمن الجواب. فالإسلام بثوابته الراسخة أى بمبادئه وعقائده وأركانه دين واحد، لكن هذا الدين يتجلى فيمن يعتنقونه.وهم ليسوا جماعة واحدة ولا ثقافة واحدة ولا بيئة واحدة، وإنما هم جماعات وبيئات شتى يتخذ الاسلام فى كل منها صورة خاصة كما حدث بالفعل طوال تاريخه الذى تميز فيه اسلام الشيعة عن إسلام السنة، عن إسلام المعتزلة عن اسلام الخوارج. وهى تسميات تنسب الإسلام للفرق التى اختلفت فيما بينها لأسباب أهمها اختلاف البيئات والثقافات التى تلقت الاسلام وطبعته بطابعها، فمن المنطقى أن يتميز إسلام إيران عن إسلام الجزيرة العربية، وعن إسلام الهند وعن إسلام تركيا ويظل من حيث المبادئ والعقائد الأساسية دينا واحدا. فإذا كان هذا هو ما حدث فى الماضى فهو الذى يحدث فى الحاضر وفى المستقبل. وباستطاعتنا إذن أن نجيب على سؤال الأستاذ مكرم فنقول: نعم. هناك إسلام فرنسى أو ينبغى أن يكون هناك إسلام فرنسى يمكن المهاجرين المسلمين من الاندماج فى المجتمعات الأوروبية ويكشف عن جوهره الحقيقى للأوروبيين الذين لايعرفون الاسلام فى هذه الأيام إلا فى وجوه الارهابيين الملثمة ووجوه النساء المنتقبات. هذه الوجوه التى يخيف بها اليمين الأوروبى جمهور الناخبين ويعتمد عليها فى إسقاط الحكومات الاشتراكية والديمقراطية كما فعل أخيرا نيكولا ساركوزى الذى قرر أن يرشح نفسه للرئاسة مرة أخرى فأدلى بتصريح طالب فيه الأجانب الذين يريدون الحصول على الجنسية الفرنسية بأن ينسوا انتماءاتهم الأصلية وينسبوا أنفسهم للغاليين! والغاليون قبائل اسكندنافية دخلت فرنسا فى القرون الميلادية الأولى واستقرت فى وسطها واعتبرها الفرنسيون أصلا من أصولهم. وهو طلب لامعنى له إلا أن ساركوزى أراد أن يدغدغ به عواطف العنصريين المعادين للأجانب وللعرب خاصة فى فرنسا ليحصل على أصواتهم.

لو أنه طالب الراغبين فى الحصول على الجنسية الفرنسية بالولاء لفرنسا لكان مفهوما، أما أن يطالب المغربى أو اللبنانى أو السنغالى بأن ينتمى للغاليين فهذا أمر مضحك، لأن أحدا لايستطيع الآن أن يدعى هذا الادعاء. وساركوزى نفسه ابن مهاجر مجرى. والفرنسيون الأصليون لاينتمون للغاليين وحدهم، وإنما ينتمون لأجناس عدة منها الغاليون، والرومان، والفرنجة الذين تسمت فرنسا باسمهم.

وفى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى كان فرانسوا ميتران رئيسا لفرنسا وقد وقف يذكر الفرنسيين بأنهم من أصول متعددة فقال إنهم «غاليون مع قليل من الرومان، وقليل من الجرمان، وقليل من اليهود والايطاليين والاسبان والبرتغاليين». ثم توقف لينهى حديثه بهذه العبارة «ومن يدرى؟ ربما كنا إلى حد ما عربا!».

وفى عام 1998 وبمناسبة فوز فرنسا بكأس العالم فى كرة القدم وقف الرئيس الفرنسى شيراك يحيى الفريق الذى ضم فرنسيين من أصول مختلفة أوروبية وإفريقية كان منهم زيدان الفرنسى الجزائرى فقال ما معناه إن فرنسا ليست كلمة مفردة ولكنها جمع مترابط، وجملة مفيدة.

وباستطاعتنا أن نقول نحن أيضا إن الاسلام ليس لجنس واحد ولا لبلد واحد ولا لعصر واحد. الإسلام لكل البشر، ولكل البلاد، ولكل العصور!