ابراهيم بيرم

صار يقيناً ان مستهل الاسبوع المقبل هو الموعد المبدئي لوصول رئيس الجمهورية ميشال عون الى الرياض في اول زيارة خارجية له بعد توليه سدة الرئاسة الاولى في 31 تشرين الاول المنصرم وفق ما ابلغه الى "النهار" وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية بيار رفول. وهذا الامر ينطوي على أبعاد ودلالات من حيث ان تكون الرياض وجهة عون الاولى، فضلا عن انها تشي بالكثير من التوجهات المستقبلية الذكية والواعدة لسيد العهد الجديد. فهو بذا يبدد ضمناً الكثير من معالم المرحلة السياسية التي سبقت وصوله الى الرئاسة الاولى، خصوصا ان البعض اصر دوماً على الاشارة اليه بأنه رجل "حزب الله" وقطب من اقطاب المحور المنتمي اليه، لا سيما ان خصومه (عون) ينظرون الى هذا الامر على انه نقطة ضعفه الاساسية التي أخرت انتخابه رئيساً لملء الشغور الذي استمر قرابة عامين ونصف عام.

وعليه فان الرئيس عون يذهب في اولى اطلالاته الخارجية نحو الخليج وزعيمة هذه المنطقة الاستراتيجية بلا منازع تلبية لغايات مضمرة ونزولا عند اهداف معلنة. فهو يردّ الجميل الكبير للمملكة التي قدمت وفق قراءة كثيرين تنازلا لا يستهان بحجمه لحظة اعطت الضوء الاخضر للمحسوبين عليها سياسيا باسقاط "الفيتو" عن انتخابه رئيساً وساعة حرصت على ان يكون موفدوها اول المهنئين حتى قبيل جلسة انتخابه.
وبحسب معلومات تتداولها اوساط ضيقة، فان عون وبتوجيهات من دائرة الديبلوماسيين المحيطين به والذين عُرفوا برصدهم البارع والاحترافي لمسار رياح الامور، لم يتجاوب من أجل ذلك مع تمنيات ونصائح أتته مثلا من صوب القاهرة وتمنت عليه ان تكون هي محط رحاله الخارجي الاول مراعاة لحسابات شتى، في مقدمها المكانة التاريخية لمصر في العالم العربي، اضافة الى ان ذلك من شأنه أن يتيح له بعدها الانطلاق الى اية عواصم اخرى بلا حرج.
وهكذا عرف عون من خلال هذه الحلقة كيف يتجاوز حساسية في الداخل، وخصوصاً حساسية "حزب الله"، من جراء اختيار عاصمة مثل الرياض مقصده الاول دون سواها من العواصم، لا سيما طهران او دمشق اللتان ساهمتا في تمهيد الطرق امامه الى قصر بعبدا بعدما اصر الحزب على اعتباره مرشحه الحصري، مضافاً اليه تفهّمه التام وعدم حساسيته حيال خطوة رئيس الجمهورية هذه. وعون بذا يحافظ على "التفاهم" غير المعلن بين الرياض وطهران والذي فتح الابواب امامه الى الرئاسة الاولى بعد طول اعتراض.


في اختيار الرياض محطته الاولى الخارجية، ثمة ولا ريب جرأة ودراية وحرفية في هذه المرحلة من احتدام المواجهات وتصادم الخيارات الاقليمية، اذ ان عون يبعث برسالة غير مباشرة الى من يعنيهم الامر انه يستعيد بشكل او بآخر "الدور التاريخي" للرئاسة في لبنان والتي كانت تجيد اداء الادوار والاختيار لحظة كانت الخلافات تبلغ اوجها بين الزعماء العرب منذ اواخر عقد الاربعينات من القرن الماضي. وهنا تبرز رغبة مضمرة في استعادة الدور التقليدي لبيروت الملطف للتناقضات العربية، والذي يبقى فوق الصراعات التي ما توقفت يوما، ويحافظ على خيوط علاقة مع الجميع سواء "شرّقوا" ام "غرّبوا".


بالطبع ثمة من يرى صعوبة في بلوغ هذا الهدف وصعوبة ايضاً تقارب الاستحالة في ان يؤدي عون دور الرئيس فؤاد شهاب الذي حافظ على قدر من الاستقلالية في عز المد الناصري، مما اتاح له الاجتماع بزعيم العرب آنذاك في خيمة نصبت على خط الحدود بين لبنان وسوريا تماما (ابان دولة الوحدة). فالظروف مختلفة وموازين القوى متحولة، وبدل القاهرة الزعيمة الحصرية في حينه هناك الان عواصم ذات ادوار مثل طهران ودمشق والرياض بل حتى الدوحة، وهي وإن لن تبلغ تأثير القاهرة الناصرية الا ان ادوارها الداخلية فاعلة.


وفي سياق الفلسفة عينها تندرج زيارة عون للدوحة بعد الرياض مباشرة، فهي وفق البعض زيارة لمحور عربي آخر يجهد للحفاظ على حيثية، وهي ضرورية للمرحلة الثالثة الآتية ولا ريب أي القاهرة.


ولم يعد خافيا ان دائرة المخططين في قصر بعبدا تعوّل على مستوى الحفاوة التي سيلقاها عون من القيادة السعودية من لحظة وصوله اليها، اذ سيقابل الملك وولي العهد وولي ولي العهد وكبار المسؤولين، الامر الذي من شأنه ان يضمن صورة تعيد الاعتبار الى تاريخية العلاقة بين البلدين وتبعث الرياض عبرها برسائل تبدد الانطباع السابق بان بيروت نأت بنفسها عن الرياض وصارت تسبح في فلك آخر، فضلا عن انه (عون) سيحظى من خلال الزيارة بفرصة الاثبات انه "عازم فعلا على الانفتاح جديا على دول الخليج" وفق قول الوزير رفول، وانه ليس في وارد التغريد خارج السرب العربي.


الى ذلك، يثبت عون انه لم يأت الى قصر بعبدا وهو مكبل اليدين بفعل التزامات، وانه عاجز عن أخذ المبادرة. واكثر من ذلك فهو يملك جرأة مفاتحة مضيفيه انه مستعد مستقبلا لأداء ادوار في خفض منسوب اية توترات او تناقضات بين الرياض وبين اي من خصومها، حتى انه مستعد لأداء أدوار اكبر من قبيل التوسط بين عاصمتي السعودية وايران.


ولا يستبعد الوزير رفول ان يفاتح عون القيادة السعودية بمسألة اعادة بعث الروح في قضية تمويل الرياض صفقة السلاح الفرنسي للجيش اللبناني، مشيرا الى ان هذا الموضوع أثير عرضاً في الآونة الاخيرة مع الجانب الفرنسي ومع معنيين آخرين، لافتا الى مناخات ايجابية في هذا الشأن.


في كل الاحوال، يبدو جليا ان عون الذي نجح في الايام الاولى لعهده في ان يظهر بمظهر الحاصل على دعم عواصم متناقضة من خلال استقباله موفدين ومهنئين من الرياض وطهران ودمشق وباريس، مما اوحى بانه يحظى بمظلة دعم خارجية كبرى، ينطلق في مطلع الاسبوع المقبل ليعطي لعهده بعدا اكبر ودورا اوسع، وهو الرئيس المسيحي الوحيد الذي أتى على أكف محور سياسي معين، وانه يملك فرصة وجرأة الا يكون شبيه اسلافه.