السيد ولد أباه

لا يُخفي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب موقفه المناوئ من الصين التي يرى فيها الخطر الاستراتيجي الرئيسي الذي تواجهه الولايات المتحدة في مقابل اقترابه من روسيا وانفتاحه على حاكمها القوي «بوتين». موقف ترامب يندرج في سياق الجدل الواسع في الدوائر الاستراتيجية الأميركية بين تصورين أساسيين: يذهب أحدهما إلى تشجيع الشراكة مع الصين في إطار معادلة آسيا والمحيط الهادئ التي تُعد محور النظام الدولي المقبل وفق مقاربة «هنري كسينجر»، ويذهب ثانيهما إلى ضرورة إحياء وتوطيد المنظومة الغربية - الأطلسية (واستيعاب روسيا ضمنها)، لمواجهة القطب الدولي المقبل المتمحور حول المارد الصيني. ومن الواضح أن أوباما تبنَّى الخيار الأول الذي جسدته اتفاقيات التبادل التجاري الحر مع الصين في سياق سياسة الشراكة الموسعة مع دول آسيا والمحيط الهادئ التي وعد «ترامب» بمراجعتها من منظور الحفاظ على المصالح الحيوية الأميركية. وإذا كانت السنوات الأخيرة من عهد «أوباما» قد شهدت عودة شبح «الحرب الباردة» بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن عودة روسيا للساحة الدولية من البوابة الشرق أوسطية والآسيوية لا تشكل تهديداً حقيقياً للنفوذ الأميركي بالنظر إلى نجاح سياسة التطويق الأميركي للمجال الحيوي الروسي في أوروبا وآسيا بما يمنع عملياً أي إحياء للمشروع السوفييتي السابق، الذي لا تتوفر عناصر قوته الأيديولوجية والاقتصادية.

الأمر يختلف بالنسبة إلى الصين التي -على عكس روسيا- لا تنتمي تاريخياً وثقافياً إلى العالم الغربي، ولها عناصر القوة الاستراتيجية والبشرية والاقتصادية التي تسمح لها بمنافسة القوة الأميركية وفق نموذجها الذي تجاوز مرحلة الانتقال الصعبة من النموذج الشيوعي الماوي إلى مرحلة التوازنات الثابتة، ففي حين راهنت التحليلات الاستراتيجية الغربية على حتمية السيناريو الروسي في الصين بانهيار النظام السياسي الصيني وانتقاله تحت ضغط الليبرالية الاقتصادية إلى نمط التعددية الديمقراطية على الطريقة الأوروبية، أثبتت الأحداث أن الصين طوّرت نموذجاً سياسياً بديلاً عن الديكتاتوريات الأحادية التي تنعدم فيها المشاركة السياسية، وعن الديمقراطيات الانتخابية التعددية من منطلقات ثقافية وتاريخية ذاتية.

الباحث الفرنسي المختص في الصين «فرانسوا جليان» يُبين من هذا المنظور أن الصين تختلف عن أوروبا في المرجعية الثقافية العميقة ما بين منطق «التحرر» الذي يرتبط بالثقافات المنبثقة عن ديانات التوحيد التي تتأسس على المطلق المفارق للطبيعة والمجتمع (أوروبا اليهودية - المسيحية والعالم الإسلامي) ومنطق «الاندماج»، الذي لا يمكن أن يتصور ذاتاً بشرية معزولة عن محيطها الطبيعي والمجتمعي. وإذا كانت ثقافة التحرر ولّدت منظومة حقوق الإنسان التي انطلقت من مبدأ حماية الفرد تجاه الدولة والمجتمع، فإن ثقافة الاندماج طوَّرت آليات فعالة لضبط المجتمع في دوائر تضامنية منظمة. وهكذا كانت الماركسية الماويّة مختلفة عن الماركسيات الأوروبية نتيجة لهذا الرصيد الثقافي، كما تختلف حالياً الليبرالية الصينية النشطة اقتصادياً عن الليبراليات الأوروبية بتصورها لطبيعة النظام السياسي القائم على معادلة تجمع بين مقتضيات المشاركة في القرار ضمن نسق أحادي موسع تتجدد قيادته باستمرار.

ورغم أن الصين لا تبحث عن تصدير نموذجها السياسي - التنموي، فإن هذا النموذج يُنظر إليه لدى نخب الشرق الأقصى، كبديل عن التجربة التحديثية الأوروبية بالنسبة إلى السياقات الاجتماعية الثقافية الشرقية ذات المرجعية البوذية - الكونفوشيوسية وذات التركيبة السكانية الكثيفة والبنية العائلية الواسعة المندمجة. المفارقة الكبرى القائمة حالياً على الساحة الدولية هي أنه في الوقت الذي تقف فيه أميركا الجديدة (أميركا ترامب) ضد حركيّة العولمة الاقتصادية والمالية التي نشأت في جوانبها التقنية والإجرائية في قلب المنظومة الرأسمالية (الولايات المتحدة)، تسعى الصين إلى توطيد موقعها الدولي باستثمار العوائد التي جنتها من ديناميكية العولمة.

في هذا السياق، نقرأ مشروعها الهائل لإحياء طريق الحرير، الذي يرجع لأكثر من ألفي سنة، وهو الطريق الذي كان يربط بين الصين والهند وإيران والإمبراطورية الرومانية، وقد أنهته الفتوحات الإسلامية قبل أن يتجدد في القرن الثالث عشر مع السيطرة المنغولية ثم ينتهي مع مرحلة الصعود الأوروبي في القرن الثامن عشر. مشروع الحرير الجديد يمتد إلى كل المجال الأوروآسيوي، ويشمل 74 دولة (4 مليارات من سكان العالم)، ويتمثل في بناء شبكات طرق برية كبرى رابطة بين الصين وباكستان، والصين ومنغوليا وروسيا، والصين وآسيا الوسطى، مع إحياء خطوط الملاحة البحرية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج العربي والبحر المتوسط، بما سيحول الصين إلى محور الاقتصاد العالمي ويضمن لها التفوق على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. اشتهرت عن «نابليون» قولته «إذا استيقظت الصين سيهتزّ العالم»، وهي الكلمة التي كان يرددها «الجنرال ديجول» في استشرافه لتركيبة النظام الدولي الجديد.