عادل درويش

أثناء مؤتمره الصحافي سبب لي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب معضلة خيار مبدئي. رفض الإجابة على مراسل «سي إن إن»: «لا... لن أسمح لك بالسؤال... مؤسستك تروج أخبارًا مزيفة».
استمر المراسل في المقاطعة معمقًا المعاناة، أي الخيارين أنحاز؟ للمنطق؟ أم للزميل الصحافي بمبدأ «الانتماء للقبيلة الصحافية» الذي انغرس في وجداني في فليت ستريت قبل 53 عاما. ننتصر دائما للزملاء، حتى المخطئ منهم، خصوصًا عندما يهاجمهم الساسة، ويلومون الصحافة عندما تفضح أخطاءهم (معاقبة الرسول لحمله أخبارًا غير سارة)، أو عند محاولة فرض رقابة علينا كصحافيين... أيضًا تجنب تصحيح زميل أخطأ أمام «الغرباء» من مستمعين ومتفرجين.
لم تكن قلة ذوق ومقاطعة مراسل «سي إن إن» وحدها السبب في تفجير الأزمة الأخلاقية: إلى من أنحاز، منطق العدالة أو نصر الزميل الصحافي (رغم أن جلوسه إلى جانب مراسلتنا، كيت جونز، أضاع عليها فرصة سؤال كانت ستطرحه على ترامب عن سياسته تجاه الشرق الأوسط والتجارة مع الخليج والعلاقة مع بريطانيا)؛ بل مفاجأة في زمن فقدت فيه الكلمة معناها، مفاجأة تخلي المؤسسات الصحافية عن قاعدة التأكد من المعلومة.
ولن أخوض هنا في تفاصيل ما نشره موقع لا يأخذه أحد على محمل الجد؛ وهو ملف من 35 صفحة أعده عميل سابق في المخابرات البريطانية يدير وكالة خاصة للاستخبارات تؤجر خدماتها لأي زبون.
ولأن ناقل الكفر ليس بكافر، نقلت «سي إن إن» عن الموقع كمصدر وعنها نقلت صحف وشبكات العالم؛ أما ذات الاتجاهات الليبرالية واليسارية فأضافت التعليقات والرأي والتحليل زيادة في الإساءة لترامب.
التقرير يدعي أن المخابرات الروسية سجلت لترامب فيديو بغرض ابتزازه وتسخيره لخدمتها.
التسجيل المزعوم في أفخم فنادق موسكو، حيث نزل الرئيس المنتخب ترامب ضيفًا قبل سنوات، في موقف مخل مع بائعات هوى.
«بي بي سي» جعلت نشراتها من الحكاية مهرجانًا بتفاصيل لا تصلح للنشر في صحف تقرأها الأسر؛ تفاصيل الهيئة العريقة نفسها غالبًا ما تنتقد الصحف الشعبية عند نشر ما هو أقل منها خدشًا للحياء فيما يتعلق بالمشاهير.
استضافت «بي بي سي» فريدريك فورسايث أشهر كتّاب روايات الجاسوسية لنصف قرن. فورسايث قال إنه لو كتب رواية أو سيناريو فيلم يتضمن حادثة ترامب المزعومة فلن يصدقه القراء، أو يقبله أي مخرج لأنه يهين ذكاء المتفرج. الحادثة يفترض وقوعها في 2011، خمس سنوات قبل أن يسمع أحد بترامب فلماذا يكلف الروس أنفسهم مصاريف وعناء ابتزازه آنذاك؟ وأضاف فورسايث أن ترامب الذي ينصح كل أتباعه بتجنب أي تصرفات مسيئة في الأماكن العامة، خصوصًا وجدران فنادق موسكو لها آذان وعيون وذاكرة، يستحيل أن يقع في هذا الخطأ.
الملف الذي أعده العميل البريطاني (ترك العمل في موسكو قبل سنوات) هو مجرد شائعات نقلها أحدهم للعميل البريطاني الذي لم يزر موسكو، بل أعد الملف عن بعد.
لم أعمل في صحافة أميركية، لكن خبرتي في فليت ستريت تجعلني أشك في نشر الصحف البريطانية لما بثته «سي إن إن» خشية المثول أمام القضاء، فلا يوجد دليل واحد يدعم هذه الاتهامات. وهذا ليس موضوعنا، فالسؤال كان: لماذا يوقعنا زملاء المهنة في مأزق الدفاع عنهم أمام هجوم الرئيس الأميركي المنتخب لمخالفتهم أخلاقيات المهنة نفسها؟
قد يكون الرجل بغيضًا في ميزان البعض وغير مقبول اجتماعيًا بمقاييس الآخرين، لكن لا يعني ذلك التخلي عن أهم أخلاقيات المهنة بعدم التأكد من دقة المعلومات، ثم الوقوع في شرك الاتهام بأننا أصبحنا جزءًا من حملة صراع بين تيارين سياسيين. أليس نصف الناخبين الأميركيين على الأقل أعطوا أصواتهم لترامب؟ أم أن «سي إن إن» ترى أن متفرجيها (وغالبًا صوت أغلبهم لهيلاري كلينتون) يرون أن الغاية، وهي الإضرار بسمعة الخصم، تبرر وسيلة عدم المهنية؟
أثناء مؤتمره الصحافي الأربعاء جاءت الصحافة لتمزقه إربًا، وانزعجت عندما فاجأت نفسي معجبًا بتحويل ترامب هجوم الصحافة إلى مصلحته؛ وكان تفوق أدائه في انتقاد «الصحافة غير المسؤولة» تذكيرًا بأسباب فوزه في الانتخابات: كراهية خصومه له تصل حد هوس المصابين بالعصاب القهري، وتطرفهم في وسائل النيل منه بترويج ملف المخابرات يكسبه التأييد بين الناس العاديين.
نجح ترامب لأنه يتجاوز «الفلتر» و«النظارة الملونة» اللذين كانت الصحافة (بكل أنواعها المرئية والمقروءة والمسموعة) تضعهما بين الناس وبين رجل السياسة قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد موقعة المؤتمر الصحافي كسب ترامب ثلاثة ملايين متابع جديد على «تويتر» في 48 ساعة.
المؤسسة الصحافية الليبرالية اليسارية التقليدية والدولة العميقة في أميركا بدوا غير واعيين بالدرس. بالمقاييس القديمة نفسها يدينون ترامب عبر الوسائل نفسها التي جعلت الأغلبية المهمشة في أميركا تعبر عن غضبها بالتصويت له.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبق المؤسسة الليبرالية الغربية في أميركا وأوروبا في فهم الديناميكيات الجديدة في الوسائل الصحافية بكل أنواعها. صحافة تقليدية للمثقفين الليبراليين تزيد من عزلتهم عن الشعب؛ والشبكات التلفزيونية غاضبة من فقدانها القدرة على توجيه الناس أثناء الانتخابات سواء في استفتاء بريطانيا على الاتحاد الأوروبي، أو الانتخابات الأميركية أو الاستفتاء الإيطالي؛ وصحافة المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي خارج سيطرة المؤسسة التي تسميها «شعبوية» وتتهمها بتزييف الأخبار.
وقد تكون المخابرات الروسية قد تعمدت تسريب معلومات كاذبة وشائعات مبالغة للعميل البريطاني لإدراكها أن الصحافة المسؤولة لن تمسها، لكن بعض المواقع أو أحدها سينشرها، وتنقلها شبكات لحساب خصوم يريدون النيل من ترامب.
قد تبدو مؤامرة محبكة الأطراف لكنها، حتى الآن، ذات أثر فاعل في السخرية من الديمقراطية الأميركية التي تمزق نفسها داخليًا.
يوم المؤتمر الصحافي بدأ وصول 3500 من قوات أميركية بمعدات ثقيلة إلى بولندا، والصين تسيطر على جنوب شرقي آسيا، وروسيا تحرك قطع شطرنج رقعة نفوذ جديدة، وديون أميركا تصل إلى 20 تريليون دولار، لكن الصحافة لم تطرح هذه الأسئلة تاركة السياسة تغرق في دوامة حرب كلامية على مواقع التواصل الاجتماعي والقذائف المتبادلة على «تويتر».
يكاد يكون هناك إجماع عالمي على أن أميركا تستقبل أقل رؤسائها مؤهلات؛ ولكنه أيضا أكثر رؤساء أميركا حظًا في نوعية خصومه وأعدائه.
لم أشاهد في حياتي الصحافية مثل هذا الحشد من الصحافيين اجتمعوا لتمزيق رجل وإلقاء جثته السياسية في الوحل، فإذا به يسخر منهم من منصة أكثر ارتفاعًا.