أحمد الغز

هناك حيوية غير استعراضية تجري بين دول التحالف العربي التي هي كل ما تبقى من النظام العربي، مع ظهور علامات حول عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي

خرجت المنطقة من مرحلة المراهنات والانتظارات إلى مرحلة الإجراءات والسياسات بعد ما يقارب العام من التوقعات التي فرضتها الانتخابات الأميركية الأخيرة .أمّا الآن، فالأمور متحرّكة بكلّ الاتجاهات، وخصوصاً لدى الجماعات التي كانت تراهن على فوز مرشّحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، والتي أصيبت بخيبة أمل بفوز ترمب في الانتخابات. وهذا ليس من قبيل المفاضلة بين مرشّح وآخر، إنما هو واقع الحال بالنسبة للذين راهنوا على هيلاري كلينتون وبنوا سياساتهم على نجاحها، فَهُم الآن في وضع لا يحسدون عليه، وفي مقدّمتهم إيران. 
إيران كانت أوّل المتضرّرين من مجيء ترمب، ليس لأنّه صديق للعرب، بل لأنّه يرفض سياسة أوباما التي استفادت منها إيران إلى الحد الأقصى، من الاتفاق النووي إلى ملفّ لبنان وسورية والعراق واليمن وفلسطين وأكثر من مكان، حتى ومع روسيا وتركيا، مع صمت إسرائيلي أو انكفاء على بناء المستوطنات شرط عدم الاقتراب من مجالها الأمني في الجولان وجنوب لبنان. كل هذا التوسّع الإيراني كان نتيجة انكفاء أميركا أوباما. من هنا، نجد إيران تسعى من هنا وهناك إلى محاولة تجميد النزاعات وتبريدها وليس إنهاءها، رغبةً منها في كسب الوقت لمحاولة استكشاف حقيقة التوجهات الأميركية في المنطقة. وهذا ما حصل بين روسيا وإيران في أستانة أذربيجان، إذ حاولت إيران التخفيف من الاندفاع الروسي دون الوصول إلى حدّ التعطيل لأنّها تخاف أن تخسر روسيا من دون أن تكسب أميركا ترمب. 
الأمر عينه مع دول الجوار ورسائل التهدئة على أكثر من مجال، لأنّ إيران ترى أنّ قواعد الاشتباك التي كانت بينها وبين إسرائيل في المنطقة، والتي سمحت لها بالتمدّد العسكري خلال الإدارة الأميركية السابقة، قد زالت مع الإدارة الجديدة، وأن إسرائيل لديها أرجحية مع ترمب عكس وضعها مع أوباما. لذلك، عادت إسرائيل إلى التفكير بدورها في المنطقة، وقد عقدت لهذا الأمر مؤتمراً في إسرائيل حضرته كل الأحزاب الإسرائيلية وتمت فيه مناقشة التحوّلات التي يمكن أن تحدث في المنطقة مع الإدارة الأميركية الجديدة. وهي أيضاً بدأت بتوجيه الرسائل إلى دول الجوار، مع التلويح بالتدخّل في الميدان أو بالحرب على الإرهاب بالتعاون مع روسيا وتركيا.
أمّا عن روسيا بما هي قوة عظمى، فإن حساباتها تختلف عن حسابات القوة الإقليمية كإيران التي تستطيع أن تحارب بالناس وبالبنادق والأدوات البدائية وبكلفة ضعيفة. أمّا روسيا كدولة عظمى فإن حروبها تُحسَب بالدقائق وأكلافها عالية وهزائمها لا تعوّض. والمعروف أنّ هزيمة روسيا في أفغانستان كانت سبباً في انهيار الاتحاد السوفيتي، لذلك فهي تريد أن تحصد سريعاً ثمن تدخّلها، وأن توظّفه في حضورها الدولي المتعثّر اقتصادياً في دول الثمانية وعسكرياً في مواجهة الحلف الأطلسي. ولذلك كانت مصرّة في أستانة على مرجعية القرارات الدولية بالنسبة إلى سورية، مع العودة إلى جنيف في الثامن من فبراير القادم، لكي تتيح الوقت للإدارة الأميركية الجديدة لبلورة توجّهاتها بالنسبة إلى التسوية السياسية في سورية، بالإضافة إلى الحرب على الإرهاب في الرقّة، والتي تحتاج إلى تنسيق مع أميركا والتحالف الدولي والإسلامي ودول الجوار وروسيا، بالإضافة إلى تحديد القوّة التي ستجتاح، لأنّ القضاء على داعش لا يمكن من دون اجتياح برّي. 
أما بالنسبة لتركيا، فإنها في مرحلة من الغموض تسود منذ التغييرات التي حدثت والاعتقالات والحديث عن الانقلاب، بالإضافة إلى المصالحات بين العدالة والتنمية والمعارضة بعد التطبيع مع إسرائيل والمصالحة مع روسيا والخلاف مع الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التباين مع الناتو، والعديد من التحوّلات في السياسة تجاه النظام السوري والتباين مع بعض المعارضة السورية. ومختصر القول هو أنّ الواقع السياسي التركي الآن شديد الغموض والالتباس، وهو أيضاً ينتظر بلورة السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة. إلاّ أنّ تركيا قد قطعت شوطاً بعيداً بالتنسيق مع إسرائيل وروسيا وإيران، أي مع الدول غير العربية، حول المنطقة العربية. 
أما بالنسبة للدول العربية، فهي في حال من الترقّب والحذر، لأنّ كل تلك التحوّلات تجري على أرضها وبشعوبها، وآثارها القريبة والبعيدة الأمد ستكون على مجتمعاتها. كما أن الدول العربية الساعية للاستقرار هي غير الدول الإقليمية والدولية الساعية لتحقيق انتصارات ومكتسبات على حساب استقرارنا وشعوبنا. وهناك حيوية غير استعراضية تجري بين دول التحالف العربي التي هي كل ما تبقى من النظام العربي، مع ظهور علامات حول عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي، مع تراجع التحريض الإعلامي، ومع تحرّكات الدبلوماسية الكويتية والوضع المستجد في الساحل اليمني على البحر الأحمر.
يجب ألاّ ننتظر الآن الكثير من الحراك العربي ما لم تتبلور مسارات الأزمات. وسيكون الموعد الأول لبلورة تلك السياسة العربية الجديدة هو في قمة عمان التي انطلقت منها قبل ستة عشر عاما مؤسسة القمة العربية عام 2001، وانتظام انعقادها في النصف الثاني من شهر مارس من كل عام، وقد كانت سنوات عجافا بكل ما للكلمة من معنى، ممّا يجعل من قمّة عمّان الأردن في 29 مارس القادم قمّة المراجعات العربية للقمم العربية، من عمّان إلى عمّان.