انور مغيث

الإرهاب ظاهرة محيرة يصعب الوقوف على أسبابها، وبالتالى من العسير أن نجد حلولاً لها. هذه الحيرة ليست نابعة من الظاهرة فى حد ذاتها، ولكنها تأتى من قصور فى منهجنا لتفسيرها، وعجز فى إدراكنا لها. أى أن هناك فجوة كبيرة تبين الواقع الذى نعيش فيه بمشكلاته، وبين طريقتنا فى تفسير الأمور. وحالنا اليوم يشبه ما حدث فى الولايات المتحدة عام 1979 حينما نشرت صحيفة الواشنطن بوست مقالاً بعنوان «كأس الأفكار فارغ» وتشير فيه إلى تقليد كان متبعاً يلتقى فيه الرئيس الأمريكى بكبار العلماء والمختصين ليستمع منهم لاقتراحات بحلول للمشكلات القومية الملحة. وفى هذا العام استنكف العلماء والمفكرون عن الحضور، لأن المشكلات بحسب تعليق البروفيسير كريستول أستاذ التخطيط العمرانى بجامعة نيويورك، أصبحت بالغة التعقيد، وقال جون كريس أستاذ الاقتصاد إن المفاهيم المتعارف عليها فى علم الاقتصاد أصبحت لا تساعد فى فهم ما يحدث عملياً فى الواقع. 

وها نحن أمام الإرهاب نشعر بأننا أمام لغز كبير، وكل محاولاتنا لتفسير نشأته وانتشاره ليست مقنعة ولا وافية. فقد كان هناك التفسير الشائع للإرهاب بأنه يحدث بسبب الفقر والبطالة، وأن الحكومات لو انتهجت سياسة رشيدة تعطى الأولوية لخلق فرص العمل، لتفادينا لجوء الشباب إلى الإرهاب. وكان النموذج التفسيرى ينطلق من كلمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حينما نصح أحد الولاة قائلاً له بشأن معاملة اللصوص: «إن هذه الأيدى خلقت لتعمل، فإن لم تجد فى الطاعة عملاً التمست فى المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية». إنه حقاً درس عظيم يمثل ركناً من أركان الحكم الرشيد. ولكن فيما يتعلق بظاهرة الإرهاب المعاصر يكفى أن نذكر دولاً ترتفع فيها نسبة البطالة ارتفاعاً كبيراً ولكنها لا تعرف الإرهاب، ودولاً أخرى بها نسبة بطالة أقل والإرهاب فيها ظاهرة متواترة ومألوفة. 

هنا ينصرف الذهن إلى البحث عن سبب آخر فيجده فى التعليم، حيث استولى أصحاب الأجندات السياسية المتطرفة على عقول التلاميذ، وعلموهم منذ نعومة أظفارهم كراهية مواطنين آخرين فى المجتمع وعودوهم بالتلقين على الطاعة العمياء، وحببوا إليهم العنف بوصفه الوسيلة الوحيدة لحل المشكلات الاجتماعية، باختصار زجوا بهم فى مسار التطرف الدينى وهوالأساس الفكرى الذى يضفى على أفعال الارهابيين العبثية والمأساوية معنى ونبلاً. وبناءً على هذا التفسير يميل الباحثون عن حل لمشكلة الإرهاب إلى افتراض أن إصلاح التعليم هو الكفيل بالقضاء على هذه الظاهرة. ومما لا شك فيه أن إصلاح التعليم سوف يسهم إسهاماً كبيراً فى التخلص من الإرهاب، ولكن حينما ننظر إلى آلاف الشباب ممن تعلموا فى المدارس الأوروبية تعليماً حديثاً وتدربوا على إعمال العقل على النقد، وكان اساتذتهم حريصين على أن ينقلوا لهم قيم العلمانية والتسامح والعيش المشترك، ورغم ذلك نجدهم ينخرطون بحماس فى صفوف داعش والقاعدة، مما يجعلنا نستنتج أن تدهور التعليم ليس هو المسئول وحده عن ظاهرة الإرهاب. 

فمن بين الإرهابيين أفراد حاصلون على أعلى الشهادات، وكان مجال العمل أمامهم مفتوحاً، ورغم ذلك أداروا ظهرهم لكل هذا وفضلوا إعلان الحرب على الجميع. وهنا يتجه التفسير إلى اعتبار الإرهابيين أشخاصاً ساخطين على نظام عالمى ظالم، ويشعرون فى مجتمعاتهم بالاغتراب، ويرون أن السعى إلى الاندماج المسالم فى النظام الاجتماعى القائم سوف يجبرهم على حياة لا ترضيهم، وسوف يتعاملون مع أنفسهم على أنهم متواطئون على الظلم. ولهذا يعتبرهم بعض المحللين السياسيين ثواراً وأصحاب مشروع طوباوى. وكما نعرف فكل يوتوبيا هى أفكار براقة وجميلة، لكنها فى العادة ما إن توضع موضع التطبيق حتى تنجب غيلاناً ووحوشاً. إلا أنه من الصعب أن نصف الإيديولوجيا التى ينطق بها الإرهابيون بأنها يوتوبيا. وقد درج علماء الاجتماع والسياسة على أن يصفوا اليوتوبيا بأنها أحلام يقظة الشعوب، حيث تعبر دائماً عن مجتمع يسوده السلام وينعم الأفراد فيه بالحرية، ويشعرون بالسعادة. والإرهابيون لا يعدون البشر بشىء من هذا، بل هم ينذرون الآخرين بنهاية الحرية ويتوعدونهم بالعقاب الشديد. ويكفى أن ننظر إلى أى مكان فرضوا عليه سيطرتهم وسموه عاصمة الخلافة، لنرى حجم الترويع الذى يحدثونه للسكان. وكم قرأنا من نقد لهم، بأنهم بهذا يدفعون الناس إلى الذهاب إلى المساجد ليس عن رضا أو اقتناع، وإنما بدافع الخوف أو بدافع النفاق. والحقيقة أن ذهاب الناس إلى الصلاة خوفاً أو نفاقاً، بالنسبة لهم، أفضل من ذهاب الناس إلى الصلاة إيماناً، لأن هذا يعد مؤشراً على تمكن السلطة وإخضاعها للناس. وهذا ما يفسر ولعهم الشديد بالعقاب المشهدى الذى يحرصون على التفنن فى ممارسته على الملأ وأمام كاميرات الفيديو. وهكذا يصعب أن نجد تفسيراً أحادياً لظاهرة الإرهاب فى زمننا المعاصر. وهى ظاهرة تمثل تحديا كبيرا أمام العلوم الإنسانية التى بات عليها أن تسعى لبلورة المناهج الملائمة لدراستها، وهى خطوة أولى وضرورية لطرح حلول فعالة وجذرية لها.