عبدالله بشارة 

جاء في صحيفة السياسة يوم الأربعاء الماضي الموافق 18 أكتوبر الجاري، أن المصادر المطلعة أكدت أن النائب محمد هايف أبلغ أطرافاً حكومية بضرورة حسم ملف إعادة الجناسي المسحوبة قبل افتتاح دور الانعقاد، وإلا فإنه سيقدم استجوابه رسمياً إلى سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر المبارك بعد الجلسة الافتتاحية، الأمر الذي سيضع العلاقة بين السلطتين على المحك وسيحرج عدداً كبيراً من النواب الذين أيدوا أو شاركوا في التفاهمات التي تمت خلال الدورة السابقة بشأن تحصين رئيس الحكومة مقابل الجناسي.


لم يأت مثل هذا الإنذار الغليظ من فضاء خال، وإنما نتاج بيئة استرخائية عززت شهية النواب للتصويب نحو الأعلى والأكبر صيداً من أجل التميز في حجم العوائد، فقد اعتادت الحناجر على الوصول إلى حصاد يتناسب مع غلاظة الصوت وعلوه، من ملف مملوء بضخامة الطلبات، مثل حق التقاعد المبكر للمرأة وإحالة الرجل في الخمسينات، فضلاً عن التجنيس العشوائي، وإضافات من «البدون»، وكلها من النهج الخدماتي الذي يسترضي فيه النواب قواعدهم للبقاء مع استدامة الامتيازات.
وكلها مكلفة في سلبيتها على أمن الكويت، وعلى مواردها وعلى سياستها في تضخيم الخلل السكاني.
ففي الحالة السائدة برلمانياً، وفي تواصل أغلب النواب مع أعضاء الحكومة، يتواجد شيء غير معقول في فهم المسؤولية البرلمانية التي حددها الدستور في المشاركة لا المواجهة، في البحث عن أفضل التدابير بدلاً من الاندفاع نحو التشنيع باتهامات للوزراء بالعجز، وهم جميعاً مواطنون مندفعون في عملهم بالحس الوطني وملتزمون بمبادئ الدستور وتوجيهاته.
هذه الحالة المستمرة منذ الغزو، أدخلت البيئة السياسية البرلمانية في شيء يمكن وصفه بـ «أوهام السلطة»، وتأتي هذه الأوهام من قراءات خاطئة للواقع مع تضخيم دور النائب في تطوير الحياة البرلمانية، ومركزية مساهمته في ترسيخ أمن الوطن واستقراره.
وأوهام السلطة موجودة في كل مكان، ولها مروجون، كما أنها عصية على العلاج، شاهدتها في حياة الرئيس الأميركي جونسون في منتصف الستينات، ومع حرب فيتنام، حين زين له مساعدوه، وأبرزهم وزير خارجيته، دين راسك، إمكانية النصر، فضاع في قراراته بلا ترو، وانسحب بهدوء بعد فشله في الحفاظ على هيبة الحكم.
كنت أعيش في نيويورك طوال السبعينات كان فيها نيكسون رئيساً، فتذوق السلطة واستطعمها أكثر مع مرور الوقت وبسببها ضاع عندما تجاسر على دستور أميركا بعظمتها، فأقصاه الوهم من البيت الأبيض معزولاً ونادماً مستخلصاً شيئاً من عبر الحياة.
أهم ما يشغل الرأي العام في الكويت ثلاث قضايا، لم يقترب منها المجلس بجدية، ففي قضية الفساد لم يعمل على المقاربة الجدية منها، لأن أبرز علاج للفساد حكم القانون الذي لا يستوعبه الكثيرون من النواب، لأن الوساطات بوابة الفوضى المؤدية إلى الفساد، ومن المؤسف أن الكويت صاحبة الصحافة المفتوحة والرأي العام المتابع، تقع في آخر صفوف الناجحين في إقصاء الفساد، ولم يتطرق المجلس إلى خريطة السكان المرتبكة والمهددة للأمن والاستقرار مع أعداد تتزايد يصعب السيطرة عليها، ومنها مليون بلا عمل ويشكلون فائضاً ثقيلاً، ولم يتفاعل المجلس مع ضرورات تعديل الخلل الاقتصادي المعتمد على نفط أسعاره تتأرجح، وسيطر كلياً على عروق الحياة في الكويت، مع مسعى حكومي جاء متأخراً في خطوات التخصيص والشراكة الأجنبية المالكة للتكنولوجيا، لكن توجهات النواب ما زالت نحو المزيد من العطاء لمجتمع غير منتج، يتطلع إلى استمرار العلاوات.
يقول المسؤولون في «الداخلية» إن هناك 70 ألف جنسية مزورة لم يتناولها المجلس ولم يطرحها بكل حقائقها وكل بلاويها بدلاً من الاهتمام بقضية محدودة تتعامل معها اللجنة العليا المسؤولة عن الموضوع.
هذا الوضع السائد وبأسلوب العلاج المعتاد لا يخرج الكويت من الوضع العقيم المستنزف لطاقاتها والمكثف لجروحها، فلا مفر من الحزم الحكومي لكي لا تقترب المصالح الشخصية من مقام الحكم وهيبته، ولكي لا يتجاوز الطرح أدب الحوار وأصوله، مع البدء في وثبة نوعية في صلابة القرار الرسمي في تعبير عن قبضة صارمة وفق أصول الحكم الحديث الذي تحتاج إليه الكويت لتخرج بفلسفة الحكم من الأسلوب الريعي إلى قواعد الاقتصاد المنتج.
من هذا فقط تخرج الكويت وشعبها وبرلمانها ونوابها من وهم إدامة الازدهار الريعي بعطاء حكومي استرضائي لا يتوقف.
كثرة الاستجوابات الاعتباطية التي لا ترتكز إلى مستمسكات مقنعة تضر بسمعة المجلس وتخلق توجهاً شعبياً معاكساً، وتزيد أيضاً التباعد بين السلطات، وتسبب الضجر لإدارة الحكم، فدستور الكويت يتعارض مع التسرع والاندفاع، ويظل ناصحاً للاستفسار بالحكمة من أجل تصويب المسار، فلم تحصد الكويت من الاستجوابات السابقة سوى الانقسامات بين السلطات وانحسار وهجها السياسي وتصاعد الارتباك والشلل.