أحمد أميري

تجري هذه الأيام معركة انفصال عن العراق، ومعركة انفصال عن إسبانيا، وحين تؤيد إحداها وتعارض الأخرى مثلاً، يخرج من يقول لك إنك تكيل بمكيالين، أو المبادئ عندك تتجزأ، أو معاييرك مزدوجة.. فثمة نمط من التفكير ينظر للأمور مجرّدة من معطياتها وملابساتها وظروفها، فإما أن تؤيد انفصال كردستان وكتالونيا، أو تعارض ما يفعله الأكراد والكتالون.

وهذه السطور لا تناقش قضية الانفصال بحدّ ذاتها، وإنما قضية الاعتقاد بأن المبادئ أشياء معلقة في السماء، لا علاقة لها بالوقائع المتصلة بها على الأرض، وبأنه يجب ألا تتجزأ المبادئ دائماً وأبداً وبشكل مطلق، وهو الاعتقاد الذي يجعل صاحبه طفلاً كبيراً، فالطفل وحده الذي يقيم الدنيا على رأس والده في «المول»، ليأخذ له نظارة طبية كما أخذ لشقيقه الآخر الذي يعاني ضعفاً في بصره.

ولو عدنا إلى قضية الانفصال، فمن يؤيد انفصال الأكراد والكتالون، لأنه مؤيد للانفصال دائماً، فالمبادئ لا تتجزأ، لا يمكنه أن يعارض غداً أي مشروع انفصالي في أي بلد في العالم، فمبجرد حصول توافق بين أغلبية سكَّانية في جزء من أي بلد على الانفصال، صار من حقها تمزيق أواصر ذلك البلد، حتى لو لم تكن هناك مبرّرات جدية، أو كانت هناك حلول أخرى غير الانفصال ترضي جميع الأطراف.

وفي المقابل، من يعارض انفصال الأكراد والكتالون، لأنه ضد مسألة الانفصال دائماً، فالمبادئ لا تتجزأ، لا يمكنه أن يؤيد غداً أي مشروع لانفصال في أي بلد، من شأنه منع نشوء حرب أهلية مثلاً، وسيقوده موقفه إلى القبول بإبادة البشر وتمزيق البلد فعلياً بسبب القتل والدمار، وهي النتيجة التي كان يمكن تجنّبها بالانفصال سلمياً.

ولنفترض أن دولة ما ألقت بآلاف الأشخاص من مواطنيها على الحدود مع دولة جارة لها.. فماذا سيكون موقف مواطني الدولة الجارة ممن يؤمنون بمبدأ عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى مهما حصل وتحت أية ظروف؟! هل سيتخلون عن مبادئهم ويطالبون بتدخل دولتهم في شؤون الدولة الأخرى لوقف تلك الانتهاكات ولو أدى ذلك إلى تغيير النظام فيها، أم سيفضّلون الالتزام بذلك المبدأ واستقبال جيرانهم على الرحب والسعة كأنّ شيئاً لم يحدث لهم؟! أم سيدعون إلى أن تنأى بلادهم عن المشكلة، وأن تترك أولئك الناس يموتون في العراء؟!

الكيل بمكيالين مبدأ خاطئ فعلاً حين يختلف الحكم على الأشياء رغم تماثلها، كأن يُحكم على شخصين في عمر واحد حكمين مختلفين، أحدهما بالحبس سنة والآخر بالحبس ستة أشهر، لأنهما خرجا ليلاً إلى الشارع وحطّما واجهة صيدلية وسرقا بعض الأدوية وباعاها واشتريا بثمنها تذكرة سفر سياحية.

والكيل بمكيال واحد مبدأ خاطئ أيضاً حين يُحكم على الشخصان في المثال السابق حكماً واحداً، رغم أن أحدهما أخذ نصيبه من الأدوية لعلاج أمه المريضة، وباع الآخر نصيبه من الدواء واشترى بثمنه تذكرة سفر سياحية.. ففي مثل هذه الحالة، لا بدّ للقاضي أن يكيل بمكيالين، وإلا كانت موازينه خاطئة.