عادل درويش

شيطنة روسيا في الأذهان في الغرب عملية استراتيجية مقصودة في محيط صناعة الرأي العام لمواجه خطر يهدد البقاء.

ليس خطر حرب مهلكة، وإن استخدمت لتبرير تطوير حلف شمال الأطلسي ونشر القوات على حدود روسيا، ورفع حدة الخوف لدى الرأي العام، وإنما تهديد بقاء التوازن العالمي الاقتصادي السياسي الذي يخدم مصالح تحالف تجمعات وتيارات سياسية واقتصادية ومالية.

تحالف WALI (المؤسسة الليبرالية الاستبدادية العالمية) وأحد ميادين قتالها أزمة الرئيس دونالد ترمب مع المؤسسة الصحافية أو الشبكات الصحافية العالمية الكبرى.

فلنتصور مدى تأثير «بي بي سي»، و«سي إن إن»، و«سكاي نيوز»، والشبكات الأميركية الكبرى و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» على الرأي العام. وتأثير «وول ستريت جورنال» و«فاينانشيال تايمز» و«الإيكونومست»، ودراسات خزانات التفكير التي تمثل اتجاه مجموعات تتحكم في تريليونات الدولارات في أسواق المال وتوجه اقتصاد العالم.

عبارة «الليبرالية الاستبدادية» امتداد للـLiberal Interventionism «التدخل العسكري الليبرالي» لتوني بلير، أحد منظري استراتيجية الاستبدادية الليبرالية، لتبرير تدخل حكومته عسكرياً 12 مرة أثناء توليه رئاستها.

والليبراليون، وبخاصة اليساريون منهم، مستبدون في «ليبراليتهم»، يصفون من يصوّت على غير مشاريعهم بـ«الفاشية» و«اليمين المتطرف» والزينوفوبيا (معاداة المهاجرين). مثلاً الصحف اليمينية كـ«الديلي ميل» و«التلغراف» تنشر لكتّاب يساريين، أما «الغارديان» الليبرالية فلا يمكن أن تنشر لكاتب يميني.

الليبراليون يصفون رئاسة ترمب بـ«الفاشية» وهي حماقة مضحكة؛ فلو كانت فاشية لكانوا متدلين من أعمدة إنارة الشوارع بدلاً من التظاهر تحتها يومياً بحرية يهتفون الإهانات ضد الرئيس وأسرته.

المؤسسة الليبرالية الاستبدادية العالمية تتكون من تيارات تثرى من العولمة عبر الحدود؛ أعضاء النادي الليبرالي الفاخر في منتدى دافوس، البنوك والشركات متعددة الجنسية، ومفوضية الاتحاد الأوروبي غير المنتخبة (عشرة آلاف من موظفيها يتقاضى كل منهم راتباً يبلغ ثلاثة أضعاف راتب رئيس الحكومة البريطانية)، سماسرة أسواق المال والبورصات، والمنشآت الطفيلية التي لا تساهم في الإنتاج الصناعي أو زيادة الثروة القومية إنتاجياً، والحزب الديمقراطي في أميركا والأحزاب الليبرالية المشابهة في غرب أوروبا؛ وجماعات اللوبي التي توجه «نواب الشعب» في البرلمانات للتصويت على سياسات لا علاقة لها بناخبيهم بل بمصالح متبادلة مع اللوبيات.

هذه المؤسسة العالمية هددها انتصار القزم ديفيد على العملاق غولايث، بتصويت المنسيين البسطاء، المهمشين بالخروج من الاتحاد الأوروبي رغم كل التوقعات. أما فوز ترمب على مرشحة المؤسسة الليبرالية الاستبدادية هيلاري كلينتون فأوصل التهديد للمؤسسة ذروته. ترمب أول مرشح ينتخب لمنصب سياسي وينفذ وعوده لناخبيه البسطاء، وبخاصة وعده «بتنظيف» العاصمة من الطفيليات واللوبيات التي تمتص أموال دافعي الضرائب. صدمة هزيمة كلينتون لم تفق منها المؤسسة، ويرعبها احتمال دق انتخابات هولندا وفرنسا المسمار الأخير في نعش الدولة الفيدرالية التي يسير نحوها الاتحاد الأوروبي.

التوازن العالمي الحالي الذي تقوده المؤسسة الليبرالية الاستبدادية له أدواته وقاعدته، وهو المحيط الذي تسبح فيه المؤسسات الصحافية الكبرى التي ذكرناها أعلاه. فرغم حملاتها بإمكانات تفوق بلدان أفريقيا، فشلت في الانتصار على الفقراء الذين لا يمتلكون شيئاً. المؤسسات الصحافية ألقت بثقلها (ومعها هوليوود ونجومها) وراء حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي، ووراء السيدة كلينتون، وخسرت على جبهة صندوق الاقتراع.

قال مساعد ترمب لمراسلة «بي بي سي» أثناء الحملة الانتخابية «سننهي احتكاركم - كمؤسسات صحافية - الرأي العام ونخاطب الناس مباشرة». ترمب يوظف «تويتر» وكأنه في عصر التلغراف (مليار و910 ملايين مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي في 2014، منهم مليار و400 مليون على «فيسبوك» ويتوقع أن يصل الرقم إلى مليارين و600 مليون على وسائل التواصل الاجتماعي في نهاية العام). المؤسسات الصحافية الكبرى، تجد نفسها حليف الصدفة التاريخية مع المؤسسة العالمية الليبرالية لمواجهة خطر يتقدم عبر جبهة غير متوقعة هي صندوق الاقتراع، وناخب لم يعد يثق في المؤسستين الصحافية والليبرالية الاستبدادية العالمية. تجربة الاستفتاء في إيطاليا دقت إنذار كارثة تلحق بالمؤسسة في انتخابات هولندا وفرنسا وربما ألمانيا نفسها (وهو السبب الذي رفضت من أجله الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل - من أعمدة المؤسسة الليبرالية الاستبدادية - خطة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بالاتفاق الفوري على تبادل حقوق أربعة ملايين أوروبي في بريطانيا بضمان مثيلاتها لمليون ونصف المليون بريطاني في أوروبا كأولوية إنسانية خارج المفاوضات الاقتصادية).

إذا لاحظت تركيز التقارير الصحافية (90 في المائة منها سلبية يمكن إدراجها تحت بند الحملة المعادية) عن كل من يرشحه الرئيس ترمب في منصب مؤثر على «اتصالاته مع الدبلوماسيين والمسؤولين الروس». وبلا شيطنة الروس وإظهارهم خطراً داهماً وعدواً مهلكاً لن تأتي هذه التقارير الصحافية بأثرها المطلوب لدى الرأي العام.

أوكرانيا التي تراجعت في الأخبار لأشهر عدة، فجأة عادت للصفحات الأولى فور تنصيب الرئيس ترمب وخطابه عن تنظيف العاصمة. اندلعت الاشتباكات وعادت الحرب الأهلية بعنف. من الذي خرق وقف إطلاق النار؟

موسكو اعتبرت ترمب صديقاً وانتخابه إشراقة أمل بإنهاء الحرب الباردة الجديدة، فهل يعقل بأن تغامر موسكو بمعاداة إدارة ترمب بدفع الانفصاليين الروس الأوكرانيين ببدء الاشتباكات؟

القوميون الأوكرانيون في حكومة كييف مدعومون من إدارة أوباما السابقة ومن الاتحاد الأوروبي.

الاشتباكات أيضاً تزامنت مع وصول طلائع القوات الأميركية التي أرسلها أوباما ضمن حلف الأطلسي إلى دول البلطيق على حدود روسيا (على بعد خمسة آلاف ميل من الولايات المتحدة). أزمة أوكرانيا فجّرها أصلاً توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً ومحادثات التحاق أوكرانيا بالمنظومة. فكل جمهورية سوفياتية سابقة انضمت إلى الاتحاد الأوروبي انتهت باتفاقية دفاع مركزت أسلحة أميركية فيها ملاصقة لحدود روسيا؛ لذا لن يقبل أي زعيم في الكرملين سواء القيصر نيقولاس الثاني، أو غورباتشوف، بأن ترسو البوارج الأميركية في ميناء سباستبول في البحر الأسود منفذ روسيا الوحيد على المياه الدافئة. الأزمة الأوكرانية حشدت الاتحاد الأوروبي مع حلف الأطلسي في عهد أوباما ضد روسيا.

المؤسسة الصحافية تثير مخاوف الرأي العام بأن بريطانيا خارج الاتحاد لا تمتلك أدوات بديلة عن دعم أوروبا باستمرار فرض العقوبات على روسيا لتحجيم خطرها.

المؤسسات الصحافية نفسها المعادية لترمب، التي تشيطن روسيا، هي نفسها، بلا استثناء واحد، التي تريد أن تعكس إرادة الشعب البريطاني بإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. تعطيل خروج بريطانيا وإحباط وتكبيل أيدي حليفها ترمب هي معركة الخندق الأخير للمؤسسة الليبرالية الاستبدادية ومؤسساتها الصحافية.. .