مروان اسكندر

شاركت في مؤتمر عقدته كلية الاعلام في الفنار التي هي من كبرى كليات الجامعة اللبنانية، وكان الموضوع تفحص نتائج توافر الغاز والنفط في لبنان والسياسات المطلوبة لتحقيق منفعة انمائية مستدامة.

البرنامج شمل مداخلات لمسؤولين أكاديميين ووزير الصناعة والنفط قبل مشاركة عدد من الخبراء كنت واحدًا منهم. ولا شك في ان مداخلة الوزير والتفصيل الفكري الذي عبر عنه كانت من أفضل المداخلات، وتبدو كأنها تتجاوز ما نقرأ عن مداخلات الوزراء والنواب، فعسى ان يستمع زملاء الوزير الى كلامه. ولعل من أهم ما قال ان المراسيم الصادرة بالنسبة الى قطاع النفط، والتي ستصدر وتسمح بالتنقيب على الاراضي اللبنانية قابلة للمناقشة. وهنا نلفت الوزير المطلع الى ان هنالك شركات لبنانية تحوز اتفاقات للبحث والتنقيب منذ عشرات السنين وان بعض الاكتشافات تحققت في السابق في منطقة في البقاع والشمال، لكن اسعار النفط في حينه لم تكن تشجع على الاستثمار، وقد سوقت اسهم لأكثر من شركة حظيت باتفاقات للتنقيب ومن ثم الانتاج، واسهم هذه الشركات حازت رواجًا، والمطلوب قبل استصدار مراسيم تحدد شروط منح تراخيص البحث والتنقيب على الاراضي اللبنانية مراجعة الاتفاقات المعقودة ومدى صلاحيتها وشروطها.


موضوع الفساد كان أكثر ما استحوذ عل توصيات المشاركين – مداخلة الوزير كانت أكثر اتزاناً - والامر اللافت ان الشكوى من الفساد عامة، وتلحق بها تقديرات لاستلاب موارد الدولة والمواطنين لا يمكن قياسها علمياً. وثمة ارقام تلقى في هواء المحاضرات تبدو غير واقعية ولن يمكن التحقق منها ما لم تصبح كل معاملات الحكومة التي تستلزم رسوماً او ضرائب مستندة الى البرامج الالكترونية الحديثة المتبعة في البلدان الصناعية، كبريطانيا مثلاً، وفي بعض البلدان الصغيرة مثل استونيا.


لقد زارتنا رئيسة جمهورية استونيا من اجل اشعار مواطنيها الاربعين الذين يشاركون في القوة الدولية في جنوب لبنان باهتمام بلدهم بأوضاعهم والاطلاع على ما قد يطلبون، ومن ثم قامت بزيارة رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، وكانت ترتدي ثوبًا جميلاً ومحتشمًا وهي صبية ذات محيا جذاب وقد لقيت ترحيباً ربما كان بعضه يعود الى صباها ومسؤوليتها لكن الرؤساء الثلاثة بحثوا مع الزائرة في موضوع الحكومة الالكترونية، أي اعتماد الانظمة المعلوماتية لتنظيم الشؤون الحياتية للمواطنين في كل ما يختص بتفاعلهم مع السلطة المركزية.


جمهورية استونيا ذات مساحة صغيرة، بالمقاييس الاوروبية، فهي توازي 17,500 كيلومتر مربع، أي تقريباً 1,6 مساحة لبنان المكتملة التي توازي 10,450 كيلومتراً مربعاً، لكن عدد سكانها مليون وثلاثمئة وسبعة عشر الفًا، وليس في استونيا ما عندنا أي نحو مليوني سوري وفلسطينيين لجأوا الى لبنان بسبب مصائب بلادهم، واصبح عدد سكان بلدنا نحو ستة ملايين نسمة. ويبلغ معدل دخل المواطن الاستوني سنوياً 17,897 دولاراً اي ما يساوي 1,6 ضعف معدل دخل اللبناني. وقد حققت استونيا معدلات نمو في السنين العشر المنصرمة تزيد على خمسة في المئة وكان من أسباب تحقيق هذه النتيجة تعميم خدمات الحكومة الالكترونية وتدريب المواطنين على برامج المعلوماتية وتوسيع معرفتهم بالتكنولوجيات الحديثة التي اصبحت تنذر مع تعميمها بالتخلي تدريجًا عن الايدي العاملة في المهن البسيطة.


وقد زرت استونيا قبل أكثر من 12 سنة، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والذي كان يضم جمهوريات البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتونيا وجميع هذه الجمهوريات تقع غرب الحدود الغربية لروسيا، واستونيا قريبة من بطرسبرج وعلى مسافة قريبة من جنوب فنلندا.


كان الغرض من زيارتي بناء على دعوة من محام اميركي مستشار للحكم آنذاك، اسداء بعض النصائح والتوصيات. وقد وجدت البلد حينئذٍ متخلفاً عن أوضاع لبنان فكان هنالك فندق واحد لاستقبال الزوار يتمتع بمستوى مشابه لما هو متوافر في بيروت، وكانت تملكه الخطوط الجوية الاسكندينافية التي كانت الوسيلة الوحيدة للطيران الى استونيا، كما الحصول على الفيزا، على رغم الدعوة، من قنصلية لاستونيا كانت في بناء صغير بمنطقة باريسية مترهلة.
تالين العاصمة كانت جميلة بمبانيها القديمة وشوارعها الضيقة التي كانت مرصوفة ببلوكات سوداء تشبه ما كانت عليه شوارع بيروت حينما كان لدينا تراموي يخترق شوارعها من الشرق الى الغرب، ومن الجنوب الى الشمال، وأهل المدينة كانوا يرتزقون من تسهيل انجاز افلام الحركة والمغامرات التي كانت تصور في استونيا على انها مصورة في مواقع في روسيا.


الشباب والصبايا كانوا يبحثون عن موارد الرزق، واسواق الخضار والفاكهة كانت تنظم في الهواء الطلق، والشعور السائد للزائر ان هذا البلد يعاني التخلف. لكن هذا الانطباع كان خاطئاً لان نظام التعليم في ظل الاتحاد السوفياتي كان يوفر العلم والعلوم لجميع المواطنين.


نظام التعليم السوفياتي كان يركز على علوم الرياضيات التي هي أساسية لخوض مجال البرامج الالكترونية ومن ثم كان السوفيات متقدمين في برامج المعلوماتية، وهذا الامر اسهم في تهيئة آلاف الشباب والشابات الاستونيين للانخراط في التقنيات الحديثة واعتمادها في تنظيم الشأن العام.


يضاف الى هذه الخلفية شعور الاستونيين بالانعتاق من النظام السوفياتي، الامر الذي دفعهم الى اعتماد الديموقراطية في نظامهم السياسي وتوجهوا نحو الانخراط في تطوير أنظمة المعلوماتية وتكريس برامجها على مختلف الصعد، وتكثيف برامج التدريس للاسهام في تكريس جيل من الفنيين المقتدرين وهكذا كان. واستطاعت استونيا تجاوز قيد عدد السكان الضئيل نسبيًا حتى بالنسبة الى المساحة الصغيرة للبلاد، وباتت تمثل النجاح الممكن للبلدان الصغيرة التي تعتمد التعليم المكثف ووسائل الديموقراطية الحقيقية. وتعتبر استونيا من الدول الاكثر تقدمًا في مجالات تطبيق المعلوماتية سواء في معاملات المواطنين مع الدولة أو الاعمال المصرفية والشركات التي تركز على الاستيراد والتصدير.
لقد أكدت رئيسة استونيا ان بلادها على استعداد للاسهام في تكريس الحكومة الالكترونية في لبنان، فعسى ان يكون الاستقبال الحماسي لها مؤشرًا لنية الرؤساء اعتماد هذه المنهجية، فان هم بالفعل اقدموا على ذلك يكون لدينا امل في تحقيق التغلب على الفساد الذي يرى اللبنانيون انه التحدي الاكبر لتوافر ثقة اللبنانيين بدولتهم ومكانتها.