باسم الجسر

 «المارد» الذي أخرجه الربيع العربي من قمقم التاريخ لم يساعد على تحرير الشعوب التي أطلقته، ولم يجلب لها الأمن والحرية والشعور بالكرامة، بل أدى إلى حروب أهلية وإلى تمزيق أوطان وإحياء عداوات وحزازات يعود بعضها إلى ثلاثة عشر قرنا سلفت... في الوقت الذي تقفز فيه التكنولوجيا الحديثة بالإنسان والمجتمعات نحو علاقات وآفاق لم تكن تتخيلها أو تحلم بها الأجيال السابقة. والسؤال الحقيقي الذي يستحق الطرح ليس المتعلق بأسباب العداء المتجدد بين الشرق والغرب، أو بين العالمين العربي والغربي، بل: لماذا هذا الارتداد إلى الماضي السحيق في نظرتنا إلى المستقبل؟ لماذا هذا اللجوء إلى العنف المرعب وترويج صوره إعلامياً استجلاباً للنقمة أو الخوف منا والتسابق على معاداتنا؟


لقد اتفقت الدول الكبرى والدول الإقليمية النافذة على أولوية القضاء على «داعش» في حربها على الإرهاب. وباتت قوات روسية وأميركية وتركية وأوروبية تحارب «داعش» جنباً إلى جنب في سوريا والعراق رغم اختلافها على تحديد الإرهاب وتصنيف الإرهابيين.
إن سلسلة التنظيمات أو الجماعات الإرهابية طويلة، ولكن «داعش» يحتل، اليوم، رأس القائمة، ولم يسبق أن تعاونت قوات أميركية وروسية وتركية وأوروبية في خندق واحد كما هي الحال اليوم. ومن الطبيعي أن ينهزم «داعش» أمام هذه الدول الكبرى. إلا أن السؤال الذي بدأ يطرح في الغرب هو: ماذا بعد انهزام «داعش» وتحرير الأراضي التي سيطر عليها في سوريا والعراق؟ هل سترتكب هذه الدول الخطأ الذي ارتكبته القوات الأميركية بعد احتلال العراق عام 2003، أم أنها ستتعاون جدياً لإعادة الإعمار وإرساء أنظمة حكم ديمقراطية في الدول التي حررتها من الإرهاب، وتواصل تعاونها للقضاء على الإرهاب في العالم أياً كانت الشعارات التي تمارس تحت لوائه؟
إن الدول العربية التي فجر الربيع العربي فيها حروباً أو شبه حروب أهلية سوف تجد نفسها - حتى لو توقف القتال غداً - في حال من الدمار العمراني والاقتصادي والاجتماعي يتطلب عقوداً من الجهود والتضحيات للخروج منها، وإنه لا بد من التعاون، بل والاتكال على الدول الكبرى لتحقيق نهضتها من الحفرة التاريخية التي وقعت أو أوقعت فيها.
ذات يوم ساد حلم جميل في المشرق والمغرب العربيين، عنوانه وحدة الأمة العربية، بعد أن تخلصت الدول والشعوب العربية والإسلامية من الاستعمار والانتداب والحماية والمعاهدات، لا سيما بعد انزراع إسرائيل في قلب المشرق العربي. إلا أن هذا الحلم الكبير والجميل بقي حلماً؛ بل تبدد يوماً بعد يوم بعد أن صبغ بالآيديولوجيات وتولت تجسيده أحزاب وقيادات سلطوية.
واليوم، وقد عادت القوات الأجنبية والإقليمية إلى سوريا والعراق لتحررهما من «داعش» - في خطوة أولى - لا يستطيع الإنسان سوى أن يتذكر الأدوار السابقة لهذين البلدين في الكفاح ضد الاستعمار، وأن يتساءل، بكل جدية وألم، عن السبب، أو الأسباب التي أوصلتهما إلى ما وصلا إليه: هل هي مؤامرة دولية - كما يقول البعض - أم هو مخطط إسرائيلي لتمزيق العالم العربي، أم إن العلة فينا؛ تفكيراً وأسلوباً وطموحاً؟
لقد بدأت الأوساط السياسية في فرنسا وأوروبا تتحدث عن مرحلة ما بعد تحرير الموصل والرقة واحتمال انتقال الإرهاب الداعشي أو القاعدي إلى بعض دول أفريقيا الغربية ذات الأكثرية السكانية المسلمة، والمجاورة لأوروبا، حيث باتت موجة العداء أو التخوف مما يسمونه «الإرهاب الإسلاموي» ترتفع. ترى؛ هل دخل العالم في صراع الحضارات دون أن يشعر، أم هي حرب باردة جديدة بين الدول الكبرى ميدانها العالمان العربي والإسلامي، أم إنه مزيج من عدة حالات توتر وتضارب مصالح واستراتيجيات؟!
المشكلة الحقيقية هي في أن الثورة التكنولوجية المعلوماتية قد غيرت العالم والعلاقات والمصالح بين الدول وبين الشعوب وحكامها، وأن العقل البشري لم يجد بعد الصيغ الجديدة للحكم وللسلام وللأمن والاستقرار الاجتماعي ولنظام عالمي جديد..