عبدالله القفاري

لم تكن العلاقة بين عبدالله القصيمي وكمال جنبلاط علاقة تبنٍ بل علاقة ندية بين مثقفين.. ولم يسافر القصيمي إلى تشيكوسلوفاكيا أو يصل إلى سيبيريا.. بل لم يكن في الأصل سوى محتجٍ على الإيديولوجيا الماركسية والشيوعية.. وبالتأكيد لم يكن أيضا منتمياً لأي تيار فكري قومي أو يساري..

هل تجني الذاكرة على الحقيقة والتاريخ؟ نعم يحدث هذا، وعلى وجه بالخصوص عندما يكون كلاما مرسلا يفتقد للمراجعة من مصادر يمكن الوثوق بها. هذا اذا كانت الذاكرة حية وقوية وشابة.. فما بالنا لا نعترف بأن للذاكرة عمراً تتهاوى فيه قدرتها على استعادة الوقائع بدقة.. بعد عقود طويلة وأعمار مديدة.

وربما تجسد هذا إلى حد ما في تلك الحلقة التلفزيونية مع الأديب والمؤرخ أبو عبدالرحمن محمد بن عمر بن عقيل (الظاهري).. التي تناول فيه علاقته بعبدالله القصيمي إبان زيارته للقاهرة، واعتقد انها كانت في سبيعينات القرن الماضي..

بعض ما ذكره ابو عبدالرحمن بن عقيل، لا يسعني ان أعلق عليه لأنه ظل في دائرة محدودة، خاصة ما يتعلق بالمناظرة التي تمت بينهما في "جاردن ستي".. إنما كان هناك في حديثه معلومات غير صحيحة، والقاريء لتاريخ وحياة وتحولات عبدالله القصيمي يدرك ذلك.

فهو يتحدث عن ظروف طرد الشيخ عبدالله القصيمي من مصر، ويربطها بوحدة ثلاثية بين مصر وسورية واليمن.. وهذه لم تحدث على أرض الواقع، بل ظلت جزءاً من نشاط سياسي تطور فيما بعد إلى الوحدة المصرية السورية عام 1958. ولم تكن الظروف التي صاحبت طرد عبدالله القصيمي من مصر عام 1954 سوى نتيجة للقاء عضو قيادة مجلس الثورة المصرية الضابط علي سالم، بالامام احمد يحيى حميد الدين، عند زيارته لليمن، ولقائه بالإمام للتنسيق في مسألة مقاومة الاستعمار البريطاني في عدن. حيث اشترط الإمام للتعاون مع الضباط الأحرار أن تطرد مصر عبدالناصر عبدالله القصيمي، حيث كانت تأتيه الاخبار والتقارير أن العديد من الطلبة اليمنيين يلتفون حوله - إبان إقامته في حلوان - وأنه قد يؤثر ويفسد عقول الطلبة اليمنيين -كما كان يقول- وهذه مرحلة سابقة لكل ماذكرة ابو عبدالرحمن بن عقيل.. لقد كان إبعاده عن مصر لأسباب سياسية مرتبطة بتحسين علاقة اليمن الإمامية، مع مصر الثورة أو حكومة الانقلاب الذي قادة عبدالناصر ورفاقه عام 1952.. والدافع إليه – أي للتعاون - الضغط على الاستعمار البريطاني في عدن الذي كان يواجه مقاومة شعبية حينذاك.

ويذكر ابن عقيل ان القصيمي رحل لليمن، وهذا غير صحيح، فلم يزر القصيمي اليمن لا في عهد الإمامية ولا بُعيد الانقلاب/ الثورة عام 1962.. والذي قاده اللواء عبدالله جزيلان آمر الكلية الحربية في عهد الإمام البدر بن أحمد حميد الدين.

لقد رُحِّل القصيمي إلى بيروت بعد عودة علي سالم للقاهرة.. ووصل بيروت، وهو لا يعرف فيها أحداً على الاطلاق سوى شخص سعودي يعمل في سفارة المملكة في بيروت وقد ساعده في أيامه الأولى. إلا أن القصيمي سبقه إلى بيروت ذيوع وانتشار كتابه (هذي هي الاغلال) الذي صدر في عام 1946 بين المثقفين هناك. ولا علاقة لكتاب (كبرياء التاريخ في مأزق) الذي صدر في عام 1966 بواقعة اخراجه من مصر.. فهي مرحلة لاحقة بأكثر من عقد.

هناك في بيروت تعرف القصيمي على العديد من المثقفين والكتاب والناشرين والسياسيين ومنهم كمال جنبلاط.. وربطتهم بالعديد من اولئك علاقات ايجابية.. عبروا عنها في رسالتهم الاحتجاجية لطه حسين الذي زار بيروت في عام 1954 مطالبين بالتدخل لدى القيادة المصرية للسماح بعودة القصيمي لمصر التي ترك فيها زوجته وأبناءه، والتي لم يعرف بلدا سواها منذ وطأت قدماه ارضها عام 1927.

ولم تكن العلاقة بين عبدالله القصيمي وكمال جنبلاط علاقة تبن ٍ- كما يقول ابن عقيل - بل علاقة ندية بين مثقفين صديقين. ولم يسافر القصيمي إلى تشيكوسلوفاكيا - التي كانت - أو يصل إلى سيبريا..!! بل لم يكن في الاصل سوى محتج على الايديولوجيا الماركسية والشيوعية.. ولم يكن أيضا منتميا لاي تيار فكري قومي او يساري.. بل كان لا يرى ثورات العسكر سوى اغتصاب للسلطة، وتكريس للاستبداد، وقمع للحريات، بل لم يهجُ القصيمي نظاما سياسيا كما هجا نظم الانقلابات العسكرية، إذ كان يرى مالا يراه الآخرون.. وفي الوقت الذي كان التيار القومي جارفا، والحماس الوحدودي مسيطرا، والناصرية مكتسحة، كان القصيمي يرى ان الكوارث ستحيق بهذه المنطقة، ولن تنجو من الكوارث الكبيرة.. وهذا ما حدث!!

وعلاقة القصيمي باليمنيين تحتاج مقالا منفصلا، إلا أن ما أود الاشارة اليه هنا أن القصيمي وإن لم يزر اليمن، فقد رفض ايضا قبول جوزات السفر الخاصة التي قدمت له له ولأسرته، لزيارة اليمن بعد قيام ثورة 1962. وكذلك رفض المبلغ المالي الذي أمر به عبدالله السلال والبالغ سبعين جنيهاً مصرياً تدفع للقصيمي شهرياً.. وأنا أنقل عن الاستاذ حسن السحولي السفير اليمني السابق في القاهرة الذي أجريت معه حوارا مطولا.. وقد اكتفى القصيمي بمحبة وصداقة مَن عرفه من اليمنيين.

أما موقف القصيمي من إسرائيل، فهو عندما كتب "هذي هي الاغلال" الذي صدر عام 1946 وقبل قيام اسرائيل، أفرد حيزا خاصا لهذا الأمر، وكأنه يقرأ في كتاب مستقبل قضية فلسطين، وهو ما حدث فيما بعد. فهو يقول إن المعنى الوحيد الذي يعني وجود إسرائيل بالنسبة للعرب، هو أنه يجب أن يكون حافزا لهم نحو مزيد من النمو والتطور. وكان يرى أن العرب حكموا بحديثهم المتواصل عن الخطر الذي تشكله إسرائيل بالنسبة لهم بالموت على إمكاناتهم التنموية، وذلك باتخاذهم وجود هذه الدولة ذريعة لتبرير عدم التفاتهم إلى ما لديهم من عيوب. وهم لا يستغلون فرصة النظر إلى إسرائيل كأداة لفحص، وأسلوب لتشخيص الأمراض التي تعانيها مجتمعاتهم. والقيمة العلاجية لهذا الفحص المؤلم ضئيلة جدا لأن كره العرب وخوفهم لم يكونا موجهين ضد نتائج الفحص المحزنة وإنما ضد جهاز التشخيص .

الحقيقة غاية البحث.. وقد تجني الذاكرة المجهدة على الحقيقة، وقد يطير بها كثيرون ممن لم يعتادوا التساؤل والفحص والبحث والمراجعة.