جلال أمين

كان أجمل ما فى علاقتى بالأقباط فى صباى ومطلع شبابى أنى لم أكن أعرف أو يهمنى أن أعرف أنهم أقباط. نعم، أذكر اسما أو اسمين لصبيين قبطيين فى فصلى بالمدرسة عندما كنت فى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري، لكنى أذكر أيضا أننى لم أكن أعلق على هذا أى أهمية، وكان هذا على ما أذكر حال بقية التلاميذ. أذكر أن مدرس اللغة الانجليزية فى ذلك الوقت كان قبطيا، بل مازلت أتذكر اسمه (الأستاذ صادق سمعان)، برغم نسيانى أسماء معظم المدرسين غيره. كنا نحبه أكثر مما نحب أى مدرس آخر، إذ كان رقيقا ووديعا وكنا نشعر بأنه يحبنا. أذكر مثلا أنه سألنا فى الفسحة أى فترة اللعب بين الدروس عما سنصنعه فى مساء الخميس، وكان هذا مساء مهما إذ يليه يوم العطلة الأسبوعية. ولما عرف مكان لقائنا وجدناه ينضم إلينا هناك ويشرب معنا الشاى كأنه واحد منا. 

لم يكن هذا الشعور غريبا أو غير مألوف، بل استطيع أن أذكر أنه هكذا كان الشعور السائد فى مصر فى ذلك الوقت، على الأقل بين أفراد الطبقة الوسطى التى أنتمى إليها. بل وأرجح أنه كان أيضا هو السائد بين سائر الطبقات. 

كانت مشاعر الطبقة الوسطى المصرية فى ذلك الوقت طوال النصف الأول من القرن العشرين على الأقل تتسم بدرجة عالية من الرقى والتحضر مثلما كانت سمات أخرى كذوقها الأدبى والفنى بل حتى مواقفها السياسية.فى ذلك الوقت روى عن مكرم عبيد - السياسى القبطى والخطيب الفذ، والوزير لبعض الوقت - قوله: «إنه قبطى دينا ومسلم وطنا». ثم حدث ما نعرفه جميعا من تطورات فى النصف الثانى من القرن من حراك اجتماعى سريع أكثره لا يستند إلى التعليم، وبعضه ذو مصدر غير أخلاقي، مما أدى إلى تغيرات كثيرة فى سلوك الطبقة الوسطي، ومن بين هذه التغيرات موقف الأغلبية الدينية من الأقليات. 

عندما أرى وأسمع فى هذه الأيام ما يسمى بأحداث الفتنة الطائفية أحيانا، وبالأعمال الإرهابية أحيانا أخرى أو أقرأ عن نية الحكومة أن تواجه الأمر بالحزم والشدة، أو مقالات عن وجوب التسامح مع الاقليات لا أشعر بأى ارتياح إذ إنى أعتقد أن ما يحدث فى مصر فى هذا الصدد، علاجه ليس مزيدا من الحزم والشدة ولا وعظ الناس بضرورة التسامح. هناك فى رأيى أحد احتمالين لتفسير هذا التغير فى الموقف من الأقباط. الاحتمال الأول أن ما يسمى بالفتنة الطائفية ليس فتنة طائفية على الاطلاق، وإنما أحداث مدبرة عن قصد من جانب قوة خارجية أو داخلية أو الاثنتين معا، لزعزعة الاستقرار السياسى والاقتصادى فى مصر سعيا وراء مأرب ضد مصلحة المصريين جميعا، مسلمين وأقباطا. والاحتمال الثانى أن يكون ما حدث نتيجة تغيرات نفسية ترجع إلى تغيرات اجتماعية قد يكون منشؤها ما مرت به مصر خلال الخمسين عاما الماضية من حراك اجتماعى سريع. وسواء كان السبب هو هذا أو ذاك فلا يمكن أن يكون العلاج تخويف الناس أو إلقاء المواعظ عليهم. فالقوى الشريرة التى يمكن أن تكون وراء هذه الاحداث لا تعبأ بالطبع بما يلقى من كلمات الوعظ أو التخويف، كما أن المريض نفسيا لا ينجح معه أيضا لا هذا ولا ذاك. هذا هو سبب شعورى بعدم الارتياح عندما أقرأ وأسمع ردود الأفعال السائدة إزاء هذه الأحداث فما العمل إذن؟ 

إزاء مثل هذه الظواهر الاجتماعية لابد أن نحذر من التسرع، وإلا كان عملنا من قبيل إبراء الذمة دون رغبة حقيقية فى الإصلاح، كثيرا ما يذكر إصلاح التعليم، أى تغيير المقررات الدراسية أو حسن تدريب المدرسين ...إلخ، لكنى أعتقد أن هذا بدوره قد لا يختلف كثيرا عن محاولة الإصلاح بإلغاء المواعظ. علاج هذه الظاهرة فى رأيى لا يحدث إلا بإصلاح اقتصادى حقيقى يمتد فترة طويلة من الزمن، ويغير بعض العلاقات الاجتماعية المهمة تغييرا حاسما. يرجح صحة هذا الرأى أن الدول أو الأمم التى لا تعانى مثل هذه الظاهرة غير الصحية فى العلاقة بين الطوائف الدينية، هى تلك التى نجحت فى إرساء دعائم اقتصاد قوى ويتمتع بدرجة عالية من الاستقرار. إن السخط لأسباب اقتصادية كثيرا ما يعبر عنه بسلوك غير اقتصادى وكراهية الأحوال الاقتصادية كثيرا ما يعبر عنها بكراهية طوائف اجتماعية سيئة الحظ، إما لأنها وافدة من مجتمع آخر، أو لأنها تنتمى لأقلية من أى نوع، دينية أو غير دينية. ومن الخطأ التعامل مع هذا الشعور بالكراهية أو السخط وكأن سببه دينى وليس سببا اقتصاديا أو اجتماعيا وإلا كنا مثل الطبيب الذى يقبل دون نقاش تشخيص المريض لمرضه. 

كل هذا يجب ألا يدعونا إلى أى نوع من اليأس إنه فقط يدعونا إلى التروى وعلاج الأسباب الحقيقية وليس مجرد المظاهر الخارجية، لكن ليس هذا للأسف حالة معظم ما نقرأه ونسمعه عن الفتنة الطائفية. نحن نسمع كثيرا من أمثلة الدعوة إلى التسامح، ونرى كثيرا من العناق والابتسامات التى ترتسم لفترة قصيرة على الوجوه، دون أن نرى تقدما حقيقيا فى ظروفنا المعيشية لا عجب إذن أن السنين تمر دون أن تنتهى أحداث الفتنة الطائفية.