سالم سالمين النعيمي

تصنيف الإرهابي بأنه شخص يعاني مشاكل عقلية ونشأة غير مثالية وتداعيات اقتصادية، أو اعتباره مريضاً نفيساً بالضرورة ولا بد من تدخل علاجي ما ليعود إلى الطريق السوي، فيه بعض من الصحة، ولكن يبدو لي أن نسبة تلك العوارض لا تزيد على ما يعانيه الإنسان المتوسط من أعراض نفسية، وتداعيات تربية وبيئة خرج منهما، والأمر أكبر بكثير من ذلك، وحتماً ليست معادلة حسابية تضع فيها المعطيات لتخرج بنتيجة دقيقة.

وهناك العديد من المسميات والأوصاف المطلقة التي تصف ظاهرة الإرهاب، وهي في الحقيقة من عوامل التضليل غير المقصود، والتي تُعد من أهم العراقيل في مواجهة منظومة الإرهاب كمرض معدٍ. فهذه الأوصاف لا تعالج جذور الظاهرة بفعالية كافية، كون التشخيص يدور حول جذور المشكلة، ولا يُشخص المشكلة الحقيقية لحساسية تناولها وارتباطها بمفاهيم خاطئة تم تعميمها عبر العصور، ولم تتخذ الإجراءات الوقائية العقلانية الناجعة حتى يختفي المرض على أثرها، ولا ينتقل من مكان إلى آخر ليبقى فيروس متلازمة الإرهاب، أقوى من المضادات الحيوية المستخدمة حالياً، والتي لا تناسب طبيعية الفيروس.

ولطالماً سمعنا أن الإرهابيين أشخاص مغرر بهم، متجاهلين أن المشكلة في طريقة التفكير، وهو أمر يعود لبنيتهم الفكرية والمجتمعات المغلقة، التي ينتمون إليها، وحتى ولو كانوا يعيشون في دول غربية فهم ينطلقون من بيئة مباشرة تحيط بهم تضج بالتناقضات والإشكاليات ما بين تفكير يُقيم رأياً، ثم يبحث عما يُثبته، ولا يجمع معطيات من مصادر متنوعة ليشكل رأياً يخضعه للموضوعية، وهم لا يشتكون من ضعف إيمان، ولكن لفقر حاد في مهارات التفكير، بجانب موروث مغلق سمم بعض جوانب الفكر في الأساس.

فكلما هاجمنا «داعش» والجماعات المتطرفة كأشخاص ورموز بدلاً من الأفكار تزداد نسبة التجنيد! فلماذا التبرير بدلاً من شرح ماذا يجري بالتحديد، وتشريح الأفكار التي تقف خلف عقلنة القتل والدمار؟ هذا الإجراء المحوري إذا تم سيقذف بالعديد من كتب ومفاهيم ومنظري التراث الإسلامي في مقبرة التاريخ الديني، وتتم عملية الدفن بتراب فكري جديد، ولابد من أن تأتي رياح التغير في المستقبل، ويكون هو المدفون بأفكار وأطروحات تحرر الدين من سلطة النص المتوارث، والذي لم ينزل بوحي، ويتحرر الأحياء من سطوة الأموات.

فالمتطرف يمتنع عن الإفصاح، بما يدور في خلجات نفسه والإجهار بقناعاته من باب الخوف أو الترهيب الذي يمارسه عليه مجتمعه، ويحجر عليه من التفكير بصوت عالٍ في منابر مناصحة مفتوحة مع عقول ترفض الجمود، ولا تقدس مسميات البشر، ولذلك من الطبيعي أن يبحث عن جماعة تتقبل آراءه كون المجتمع رفضه، وجعله خارج دائرة القبول المجتمعية، وكل ما تحدثه به نفسه من شكوك تصنف كجرم ويوصم بوصمة التطرف، وفي الغالب يكون الشخص من المراهقين.

وسيكولوجيا العناد عند المراهق كفيلة بأن يثبت الشاب على المحتوى وما وصل إليه، ومن ثم يتجنب آراء العلماء المعتدلين والمجتمع، ويميز ويوضع نفسه في خانة، ويصنف نفسه ذاتياً، ويبدأ مرحلة الدفاع بكل طريقة، وخاصة لفظياً وبدنياً، وصولاً بضرورة إزاحة الآخر من معادلة البقاء في المجتمع، حتى يعود المجتمع نقياً من دنس من لا يؤمن بنفس معتقدات رجال الدين الذين لقي في أصواتهم وآرائهم ما يوافق تفكيره، وبالتالي يصبحُ قتلُ حتى منْ هو قائم يصلي أمراً عادلاً وضرورةً للوصول لغاية أكبر «تُعلي» من راية الإسلام!

ولا أستوعب حقيقةً لماذا لا تدرس منهجيات وأنماط التفكير بتفاصيلها في مدارسنا، ومادة المنطق وفقه الواقع أو النوازل المعدل في جميع المراحل التعليمية؟ فما يسيطر على مجتمعاتنا المسلمة هو التفكير الدوغمائي، وإنْ كان بنسب متفاوتة بين الأفراد، وهو ليس أمراً يختص بالدين، فالدوغمائي قد يكون علمانياً أو ملحداً..الخ، وهو أصل التطرف والغلو واللبنة الأولى في الإرهاب.

فالشخص الدوغمائي لديه يقين بصحة ما يملك من معلومات، وكل ما يعرفه وتعلمه وما وصل لعقله من الغير لا يتحاج لدليل، وبالتالي يرفض وينكر ما لدى الآخر، وليس لديه نية لفحص أدلة الآخر، أو الاستماع إليها.. والإنسان الدوغمائي لديه أحكام مسبقة جاهزة مقولبة، تؤدي للتحيز والبعد عن الحقائق وقبول فقط ما يوافق مسلماته، كما يعمم بإفراط ويقفز بسرعة للاستنتاجات، ولديه تصورات ذهنية يغلب عليها الهوى وهو معتقد تماماً بصحة ما يقوم به.