هشام النجار

أحد قادة الأحزاب «الإسلامية» من الهاربين بتركيا تساءل متقمصًا دور المضطهد لماذا لا تعامل تلك الأحزاب مثل الأحزاب «المسيحية» بأوروبا. ودون أن يقصد وضع يده على السبب الحقيقى لأزمتهم ولو وعوا هذه الإشكالية جيدًا لانفكت جميع عقدهم المزمنة. 

الأحزاب «المسيحية» بأوروبا ليست دينية هوياتية إنما مدنية مستنيرة منفتحة ووطنية لا أممية وتضم جميع شرائح المجتمع، والقضية متعلقة بالأساس بالتاريخ وبالثورة التنويرية التى انطلقت بأوروبا منتجة الفهم المتسامح المستنير للدين، ليُحل المشكل المذهبى وتتأسس المواطنة، والفارق أن التنوير الفكرى هناك حدث قبل القفز داخل المشهد السياسى فمهد الطريق بسلاسة للتغيير والنهضة. 

القضية ليست بهذا التسطيح وبدلًا من التآمر والتحريض والانشغال بالدولارات والسبوبة وخدمة مشاريع أردوغان وقطر، كان عليه أن يطرح على نفسه السؤال المنطقى وهو كيف وصلت تلك الأحزاب بأوربا إلى هذا المستوي، ليكتشف أن حزبه وجميع الأحزاب المسماه «إسلامية» لم تمر بالمرحلة التنويرية، وإذا كانت الحالة الأوروبية قد مرت بتفكيك بنيوى قبل التركيب والبناء، فقد قامت الأحزاب «الإسلامية» على قديمه وعلى نفس تصورات ومناهج وأهداف الجماعات المنبثقة عنها، والإجابة عن سؤال لماذا هى مستعصية على الإصلاح رغم الفرص التى تمنحها الدولة لها؛ فلأنها لم تتفكك بنيويًا أولًا على طريقة ديكارت وسبينوزا وفولتير وملبرانش..إلخ لتحل الفكرة الديمقراطية وفلسفة الدولة المدنية وحقوق الإنسان ودولة العقد الاجتماعى محل الحاكمية الإلهية والدولة العقائدية وولاية الفقيه. 

جمز بالجميز إلى أن يأتى التين، أو هكذا يفكر من يتذرعون بالصبر على حضور تلك الأحزاب بالساحة المصرية رغم كوارثها، ولن يأتى التين ما لم تحدث الثورة الفكرية أولًا، وسيظلون يرتكبون الأخطاء الفاحشة التى يدفع الجميع ثمنها ويتسببون فى حروب أهلية وانقسامات وفتن مذهبية، ما لم تتغلب رؤى العصر الذهبى على تهاويم عصر الانحطاط والجانب المضيء للتراث على الجانب المظلم وما لم تحدث القطيعة مع العصور الوسطى الإسلامية، كما قطعت أوروبا مع عصورها الوسطى المظلمة. 

استبدل راشد الغنوشى أحد قادة التنظيم الدولى للإخوان مصطلح «الإسلام السياسي» بمصطلح «الإسلام الديمقراطي»، والتقى بلندن المثير للجدل عبد المنعم أبو الفتوح، وقبلها بأيام اكتشفت أجهزة الأمن المصرية مزارع شاسعة مملوكة لقيادات إخوانية تستخدم كمخابئ للأسلحة ومصانع للمتفجرات. 

هذا أصيل فى تاريخ ممارسات الإسلام السياسى وفى مذكرات قادة النظام الخاص للإخوان اعترافات تفصيلية بتدريبات جبل المقطم وعين غصين بالإسماعيلية، واكتشفت بحديقة منزل القيادى بالجماعة محمد فرغلى أسلحة وقنابل مخبأة تحت الأرض ويقول الرافعى »ضبطت فى مخابئ الإخوان مفرقعات تكفى لنسف جانب كبير من القاهرة والإسكندرية«، ضمن مؤامرة لتصفية أعضاء مجلس قيادة الثورة على رأسهم عبد الناصر ونحو 60 ضابطًا من ضباط الجيش تمهيدًا للاستيلاء على السلطة بعد الخلاف مع عبد الناصر حول هوية الدولة ومستوى تمثيل الإخوان فى الحكم، وهى نفس الخطة التى أعدت أخيرًا مع توسع فى التمويل والدعم والتنسيق مع قوى خارجية. 

يتحدثون عن «الديمقراطية» ويسوقون أنفسهم لدى الغرب ويتحدثون فى الندوات هناك وكأن الواحد منهم جاك روسو أو كانط، بينما لا نرى منهم هنا إلا وجوه البغدادى والزرقاوى والظواهري! والأمر ليس لغزًا لأنهم يعتقدون بحتمية وجود فصيل «الأنياب والأظافر» لإرهاب الخصوم وحماية «الدعوة» وإنجاز مشروعهم بالقوة. 

الدول الغربية وخاصة بريطانيا- تبارك هذه الممارسات لسبب بسيط وهو أن الصراع مع العدو الإسرائيلى فى هذه الحالة ليس مركزيًا، إنما المركزى هو مع قوى الدولة الوطنية المضادة للتفكيك والتجزئة، وهؤلاء الذين يطرقون أبواب مصر بالسلاح ويتغنون تحت نوافذ الغرب بمصطلحات حداثية دون مضمون ولا تطبيق عملى على الأرض يحتاجون إلى مائة سنة لكى يبنوا نظامًا ولن يبنوه، فالنظام حتى ولو كان فرديًا شموليًا يحتاج إلى دولة بينما مشروعهم نقيض للدولة الوطنية، 

هنا تحديدًا تأتى أهمية زيارة بابا الفاتيكان وما رمزت له، لعل الغرب يتنبه جيدًا إلى أن من يمثل الإسلام ليس جماعات الإسلام السياسى التى توظفها أجهزة المخابرات والدوائر السياسية الغربية فى مشاريع سترتد عليها حتمًا فى يوم من الأيام؛ فقتال «العدو القريب» بحسب قناعاتهم الزائفة - ما هو فى حقيقته إلا توطئة واستعداد لقتال «العدو البعيد». 

الغرب ينبغى أن يعترف بأحقيتنا بمشروع الدولة الوطنية التى يعاديها الإسلام السياسى وتناهضها جماعات التطرف والتى قامت فى امتداد فترة الاحتلال الأجنبى وتطورت فى حقبة الاستقلال السياسي، والتى لم تكن فقط تعبيرًا عن تحول من القبلية إلى الدولة الحديثة، بل انتقال كامل من نظام دولة قائمة على الحق الإلهى إلى نظام تؤسسه قاعدة الشرعية المدنية بشكليها المتكرسين فى التجربة العربية الحديثة «الشرعية الدستورية والشرعية الثورية»، تأسيسًا لمجتمع المشاركة السياسية والمساواة والحريات. وأحقيتنا فى الاستفادة من فلاسفتنا ممن ألهموا قديمًا علماء الفيزياء والرياضيات والطب والفلك فى الغرب، على قاعدة ما قاله ابن رشد لمن اتهمه بالإلحاد «أيها الناس أنا لا أقول إن هذا العلم الذى تسمونه أنتم علم الله هو على خطأ وإنما أقول إن علمى أنا هو علم بشري»، وبمعناها وهدفها الذى أورده المؤرخ جيو فيدو قوادري؛ عندما رأى أن «الإنسانية الجديدة التى تفتحت مع النهضة انبثقت من تلك القاعدة». بمعنى أن تُبذر أيضًا فى أرضنا بذور الحضارة الحديثة التى بُذرت فى أوروبا والتى تفصل قاطعًا بين الدينى والدنيوي، لا أن تزرع وتخبأ فيها الأسلحة والقنابل المتفجرة والحارقة التى تخدم مسارات الهدم والتخريب والرجعية والتخلف برعاية «فلاسفة» الإسلام السياسى الذين تستضيفهم لندن ممن لا يتصورون وجود تأويل آخر للإسلام غير التأويل الانغلاقى المسيطر منذ ألف سنة. 

عبد العزيز كامل الذى كان حسن البنا يطلق عليه لقب «الفتى الذهبي»، نظرًا لذكائه الشديد وحكمته ولذلك تركه وتعاون مع عبد الناصر دعمًا للدولة الوطنية، أكد أن الإخوان لا يبذلون الكثير من الوقت والجهد فى تقليب الأمور واتخاذ القرارات ودراستها بعمق اعتقادًا منهم بأنهم إذا أخطأوا فان عناية الله ستتكفل بإصلاح هذا الخطأ! وها هم يعترفون بذلك الآن بعد ما ألحقوه بالأوطان من كوارث. لم يعد الأمر يحتمل تلك الخفة والسطحية من بعض المغامرين، فالإسلام كعقيدة تضرر كثيرًا من أفعال غير راشدة بتقديمه بوصفه عقيدة معادية للتسامح والحرية وداعية للعنف والشمولية. والأمة بحاجة لرؤى جامعة ومُوحِدة لا لأيديولوجيا سياسية لفريق بعينه تكرس للفرقة، يتلقفها المريدون فتدغدغ أعصابهم ويشتعل بها وجدانهم المهيأ للتعبئة سلفًا تحت وطأة الشحن الديني.