محمد برهومة

يُحسب لمعرض أبو ظبي الدولي للكتاب تكريمه هذا العام شخصية ابن عربي (1165-1240). وتكمن قيمة هذا التكريم للتصوّف الفلسفي، أنه يعيد إلى الواجهة النقاش في شأن الإصلاح الديني، عبر التركيز على عقلنة المُثــل والتجارب الدينية، وتوسيع مِروحة أنماط الـــديّن، وتقليص الفجوة بينها وبين الاختيار الفردي، وفرز ما تنطوي عليه تلك التجارب من معــــانٍ إنسانية تنظر إلى الإنسان باعتباره قيمـــة مركزية في الكون والحياة، وتأثير هذا كله في مسيرة ومحاولات الإصلاح الديني.

إعادة الاعتبار لابن عربي تساهم في بلورة ما يسميه فهمي جدعان «الأصول البِذرية» للعقلانية والحداثة الأخلاقية الإسلاميتين مما وُجِد في مصنفات المعتزلة والتوحيدي والمعرِّي ومسكويه وابن سينا وابن رشد و «إخوان الصفا» وأهل التصوف، ممن كان الإنسان شاغِلَهم في النظر. 

وثمة باحثون لفتوا النظر إلى أن فكرة «الإنسان الكامل» ظهرت في الثقافة العربية، وانطوت في تضاعيفها على النظر إلى الإنسان كفكرة مركزية في الوجود، وعلى أنه قادر على بلوغ الدرجات العالية للإنسان الكامل. وهذه الفكرة تداولها ابن عربي والسهروَرْدي والحلاج وعبدالكريم الجيلي، وتم البحث في أن النزعة التنويرية لابن الراوندي ذاعت بين الناس إلى أنْ خبت وفقدت فرادتها نهاية القرن السابع الهجري. والحقيقة أن انطفاء هذه الجذوة أفضى إلى فكرٍ وفقهٍ وتراثٍ ديني يكرّس صورة للإنسان والعقل بوصفهما «قاصرين».

ولا شك في أنّ تراجع التوجُّه إلى الإنسان كقيمة عليا كان نتيجة طبيعية لغلبة الفقهي على العقلي والفلسفي في ثقافتنا إبان عصور الانحطاط، واختلاط الدين بالتديُّن، وضمور بند الحرية والفردانية، والإسراف في مفاهيم «الولاء والبراء»، وتقسيم العالم إلى قسمين مسلم وغير مسلم، والتشدد مع المرأة وعلاقة الرجل بها. ذلك ما أضعف الاستجابة لتقليد أخلاقي غزير في الحضارة الإسلامية، اتسم بالنزعة الإنسانية، والعمق الفلسفي، والعقلانية الرحبة، وهو ما كان قائماً طيلة أكثر من ثلاثة قرون (منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وحتى منتصف القرن الخامس الهجري)، هي أكثر فترات حضارتنا ازدهاراً.

إن التحدي لأي مشروع تنويري في منطقتنا هو إزالة الفجوة بين الانتماء للعصر والحداثة وثقافة حقوق الإنسان وبين «الانتقائية الخلاّقة»، التي تتأسس على أنّ أي تنوير أو إصلاح ديني مُرتجى ينبغي أن يجري المراجعات والقراءات النقدية للتراث والتاريخ الإسلامي، ويُقِرّ بأهمية البناء على «الأصول البِذرية» للعقلانية والحداثة الأخلاقية الإسلاميتين، وإدراك أن جذور التحضر في الخبرة التراثية الإسلامية جاءت من مرونة الانفتاح على الثقافات الأخرى والعلوم المختلفة، والشغف بالآداب والفنون والفلسفة، فكان تحضّر المجتمعات الإسلامية نتاج هذه التوليفة.

اشتغال «الانتقائية الخلاّقة» قد يتجلّى، مثالاً لا حصراً، في قول ابن عربي إنّ «الإله واحد والطرق إليه متعددة»، وقول «إخوان الصفا»: «اعمل الخير لأنه خير»، وهذه وغيرها مداميك تأسيسية لأخلاقٍ ترتكز على الحرية وعدم الإكراه، فضلاً عن اختزانها بذور تسامحٍ متساوٍ مع الآخر، وليس فوقياً، بما يمنع فكرة التفضّل والمنح ممن هو أعلى لمن هو أدنى، وهذا صُلب المواطنة المتساوية.


* كاتب أردني