عمار علي حسن

يجب ‬ألا ‬تذهب ‬زيارة ‬بابا ‬الفاتيكان ‬لمصر ‬التي ‬التقى ‬فيها ‬فضيلة ‬الإمام ‬الأكبر ‬شيخ ‬الأزهر ‬وبابا ‬الكنيسة ‬الأرثوذكسية ‬سدىً، ‬بل ‬يجب ‬البناء ‬على ‬ما ‬أثمرته ‬ولاسيما ‬نقلها ‬الحوار ‬بين ‬ممثلي ‬أكبر ‬عقيدتين ‬سماويتين ‬على ‬الأرض ‬من ‬مجال ‬العقائد ‬إلى ‬مسارات ‬الحياة. 

‬وهو ‬ما ‬سبق ‬أن ‬أشار ‬إليه ‬المنتدى ‬الإسلامي- ‬الكاثوليكي ‬الذي ‬انعقد ‬أواخر ‬عام ‬2007، ‬ودعا ‬إلى ‬إرساء ‬نظام ‬مالي ‬أخلاقي ‬يراعي ‬أوضاع ‬الفقراء ‬والدول ‬المدينة، ‬وبتعهد ‬الطرفين ‬العمل ‬معا ‬لمكافحة ‬العنف ‬الذي ‬يرتكب ‬باسم‭ ‬الدين ‬والدفاع ‬عن ‬الحريات ‬الدينية ‬ورعاية ‬حقوق ‬متساوية ‬للأقليات‭ ‬الدينية، ‬واحترام ‬الشخصيات ‬والرموز ‬الدينية. ‬كما ‬أن ‬هذه ‬الزيارة ‬فتحت أيضاً، ‬وللمرة ‬الأولى، ‬باباً ‬واسعاً ‬للحوار ‬بين ‬الكاثوليك ‬والأرثوذكس، ‬وهو ‬حدث ‬كبير ‬بكل ‬المقاييس.

في المنتدى الإسلامي- الكاثوليكي كان قد اجتمع 58 من علماء الدين منقسمين بالتساوي بين الجانبين، ليتوصلوا إلى «كلمة سواء» تفتح حواراً بناء يقوم على مبدأ مشترك بين الديانتين يقوم على حب الله وحب الجار، من منطلق أن الكاثوليك والمسلمين مدعوون لأن يكونوا دعاة حب وانسجام بين‏‭ ‬المؤمنين ‬وللبشرية ‬جمعاء. ‬وأن ‬ينبذوا ‬أي ‬قمع ‬وعنف ‬عدواني ‬وإرهاب ‬وخاصة ‬ما ‬يرتكب ‬باسم‭ ‬الدين، ‬وتعزيز ‬مبدأ ‬العدل ‬للجميع، ‬وذلك ‬حسب ‬البيان ‬المشترك ‬الذي ‬صدر ‬عن ‬المنتدى، ‬والذي ‬أتبع ‬اعتراف ‬لبابا ‬الفاتيكان ‬السابق ‬بأن «المسلمين ‬والمسيحيين ‬يشتركون ‬في ‬قيم ‬أخلاقية ‬ويجب ‬أن ‬يدافعوا ‬عنها‭ ‬معاً.‬ ‬وهو ‬كلام ‬لطّف ‬كثيراً ‬من ‬غلواء ‬محاضرته ‬التي ‬أثارت ‬جدلاً ‬قبل ‬ذلك بنحو ‬سنة ‬ونصف ‬سنة، والتي ‬زعم ‬فيها ‬أن ‬الإسلام ‬لا ‬يمجد ‬العقلانية، ‬ليأتي ‬البابا ‬الحالي ‬ويطوي ‬هذه ‬الصفحة ‬تماماً ‬عن ‬اقتناع ‬تام ‬لما ‬هو ‬معروف ‬عنه ‬من ‬نزعة ‬إنسانية ‬عالية.

إن من الضروري عدم الاستسلام للمقولة التاريخية التي تتصور أن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً»، لأنها أولًا من صك المحاربين وليست من صناعة أهل الفكر والدراية، وهي ثانياً تختلف مع منطق الحياة وطبيعة تطورها التي تقول بجلاء إن تاريخ الإنسانية عبارة عن طبقات يتلو بعضها بعضاً، وإن الناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها صنعوا طيلة تاريخهم المديد هذه الطبقات، فصارت رقائق حضارية متواصلة ومتفاعلة. بل من الضروري نقل الحديث من حوار بين أتباع الأديان أو العقائد إلى حوار حضاري شامل.

لقد حاول بعض المفكرين الغربيين أن يهيلوا التراب على عطاء الحضارات الأخرى، ويهضموا حق شعوبها في الإبداع الخلاق، فروجوا لفكرة «المركزية الأوروبية» ذات الصبغة العنصرية التي تتوهم أن شعلة الحضارة انتقلت من الإغريق الأقدمين إلى الأوروبيين المحدثين، ولم تمر بأي وسائط، ولم تتأثر في نشأتها بأحد، ولم تنقل في وصولها إلى الزمن الحديث من أحد. ولكن هذه المغالطة لم ترض كثيرين بمن في ذلك علماء غربيون، تحدث بعضهم عن كون الإغريق نقلوا عن الحضارة الفرعونية، وأن العرب والمسلمين أضافوا الكثير إلى ما أنتجته القريحة الإغريقية، وأهدوه للإنسانية، فالتقطه الأوروبيون وهضموه واستفادوا منه، وزادوا عليه كثيراً حتى وصلنا إلى التقدم العلمي والتقني الرهيب الذي نعيشه الآن.

ولمّا أراد بعض العقلاء أن يقربوا بين البشر المختلفين في الألسنة والألوان والمشارب والأهواء والظروف الحياتية، ساروا في اتجاهين الأول هو حوار الحضارات والثاني يتعلق بحوار الأديان. ولكن الطريق الأخيرة ملغمة إلى أقصى حد، فنقاط الخلاف بين الإسلام والمسيحية واليهودية تتمحور في جانب كبير منها حول العقيدة، وهي مسألة غير قابلة للتفاوض ولا التنازل أو المساومة. 

وعلى رغم أن الأطراف المتحاورة تحاول تجنبها أو تدعي ذلك فإنها لا تستطيع أن تتجاوزها، ولم تنجح إلى الآن في تفرقة جلية بين «اللاهوت» و«الناسوت». ولأجل كل هذا اقتنع كثيرون في نهاية المطاف، وبعد جولات عدة من الحوار، بأن الحوار يكون بين أتباع هذه الديانات، أو بين المتدينين أنفسهم، وليس بين الأديان ذاتها.

والوصول إلى تلك النقطة يجعل الحديث عن حوار الحضارات لا حوار الأديان هو الأجدى والأنفع. فالحضارة تشمل الدين، لكن الأخير لا يشملها، وفي الوقت نفسه فإن تجاذب أطراف الحديث حول الحضارات أخف وطأة على النفس وأيسر على العقل من التعامل مع العقائد. 

ووجه الشمول في المدخل الحضاري أنه يجمع بين الدين وغيره في نسيج واحد مترابط، فيبتعد الحوار عن المسائل العقدية ليركز على الثقافة النخبوية وطرائق المعيشة بما فيها العادات والتقاليد والموروث الشعبي ومستوى المعارف التي ارتقى إليها تجمع بشري ما، والأفكار المتداولة في لحظة التحاور، والآداب والفنون التي يتم إبداعها، وأنماط الإنتاج السائدة. ويدخل كل هذا محل نقاش حول سبل استفادة كل طرف مما لدى الطرف الآخر من هذا المخزون الحضاري، المادي والمعنوي، وهنا يصبح الباب مفتوحاً أمام عطاء مجالات علمية وعملية عديدة ومنها السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون، وهو ما يسير إليه ولو بطيئاً المنتدى الكاثوليكي الإسلامي، بدلًا من الوقوف عند السجال العقائدي المرير.