ليون برخو

قد لا نجانب الصواب إن قلنا إننا في حقبة أو ثورة صناعية حديثة قوامها اللغة والخطاب. أغلب الأجهزة الذكية التي نملكها التي صارت جزءا من حياتنا ووجودنا، في جوهرها ما هي إلا وسائل لنقل الرسائل. 

والرسالة في ماهيتها خطاب، لبه اللغة أو أي رمز آخر بإمكانه إيصال رسالة ذات مغزى. والرسالة تحتاج إلى وسيلة. في الماضي، كانت النخب والمؤسسات ذات الصيت والجاه والمال تحتكر الوسيلة. 

واحتكار الوسيلة يحدد في الغالب من المرسل وماهية الرسالة للمتلقي. اليوم اختلف الأمر. الأجهزة الرقمية الحديثة وشركات التواصل قللت الفروق بين المرسل والرسالة والوسيلة والمتلقي. هناك تداخل بين هذه العناصر إلى درجة قد تجعل من أي متلق اليوم مرسلا يبث رسالته بيسر لشيوع ومجانية الوسيلة. 

مجانية وشيوع الوسيلة منحت كل مستخدم الفرصة أن يصبح ليس مرسلا وصاحب رسالة بل أن يكون له متلقون وفي أحيان كثيرة يفوق عددهم أضعاف ما لدى مؤسسات إعلامية عالمية مؤثرة من المشاهدين والقراء والمستمعين. ربما تكون جريدة "نيويورك تايمز" أكثر الجرائد رصانة ونزاهة وتأثيرا في العالم. في العام الماضي احتفلت على صفحتها الأولى بوصول عدد المشتركين فيها إلى 2.1 مليون. 

بيد أن هذا الرقم الكبير الذي لم تبلغه هذه الجريدة منذ تأسيسها قبل 165 عاما، يبدو قزما أمام الأرقام الفلكية للمتابعين في وسائل التواصل الجماهيري. هناك من الأشخاص، وليس مؤسسات، من لهم أكثر من 100 مليون متابع في وسيلة واحدة للتواصل الجماهيري وحسب. 

وإن أخذنا العالم العربي، رغم أن وسائل التواصل الجماهيري ما زالت في بداية نموها، لرأينا أرقاما مذهلة لعدد المتلقين أو المتابعين. مثلا، هناك أكثر من 16 مليون متابع لداعية واحد في "تويتر" فقط. وقد يكون لشخص عادي من الأتباع والمتلقين أكثر من أي وسيلة إعلامية تقليدية تبث رسالتها باللغة العربية. 
أخذت العوائق تضمحل وتندثر أمام انتشار الرسالة وصرنا أمام فرضيات واستنتاجات لها وقع كبير على واقعنا الاجتماعي: الفرضية الأولى التي بموجبها يتسع مدى الرسالة من حيث عدد المتابعين تقول: كلما قرب محتوى الرسالة من الميل، الدين والثقافة والتقاليد وغيره، الذي أنا عليه، زاد التصاقي بها. الفرضية الثانية تقول يتقاطر الناس على الرسالة التي يكون محتواها قريبا من ميولهم وداعما لها. وتأسيسا على هاتين الفرضيتين، نستنتج أن الناس بصورة عامة والقادة والنخب في صفوفهم بصورة خاصة يدافعون عن دينهم وثقافتهم وتقاليدهم، وطريقة حياتهم، من خلال خطاب جله تحريض وكراهية، إلا أنهم لا يشعرون بذلك. 

على العكس، يتصورون لا بل يؤمنون بأنهم على المسار المستقيم مسار المحبة والتسامح. الاستنتاج الآخر يتعلق في وجهة النظر التي تقول إن كل من ينتقد الخطاب الذي من خلاله ندافع عن ميولنا هو الذي يلجأ إلى التحريض والكراهية لأنه في الواقع يريد فرض طريقة حياته علينا. لدينا حتى الآن فرضيتان واستنتاجان. 

هل بإمكاننا التوصل إلى بعض المعايير لقياس وتقييم خطاب التحريض والكراهية في الإعلام؟ مبدئيا، أظن بإمكاننا وضع بعض الأسس للتقييم والقياس، فنقول: كل خطاب يرى في ميول قائله وصاحبه أنها أسمى من الآخر يعرج صوب التحريض والكراهية. كل خطاب يرى في ميول الآخر المختلف أنها أدنى أو أقل درجة مما لديه، ينحو صوب التحريض والكراهية. كل خطاب يرى أن الآخر لن يحصل على ما له من امتيازات دنيوية وغيرها ما لم يصبح مثله، يقع في خانة التحريض والكراهية. كل خطاب ينتقص من الآخر بانتقاء أطر خطابية محددة حتى على مستوى مفردة واحدة، يشجع على التحريض والكراهية. هذه بعض الأسس لتقييم وقياس خطاب التحريض والكراهية. وإن كان هناك صاحب ميل محدد يقول إنه بريء من خطاب التحريض والكراهية، فليرمنا بحجر.