عرفان نظام الدين

السؤال الذي يقلق العرب والشعوب المنكوبة بالحروب، والشعب السوري في طليعتهم، هو: هل بقي هناك من أمل بإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة الإعمار وبناء ما تهدم بعدما عادت البلاد عشرات السنين إلى الوراء وعم الدمار كل مكان، من مدن وقرى وبنى تحتية ومؤسسات عامة وخاصة؟

الجواب على هذا السؤال صعب لكنه ليس مستحيلاً، إذا توافرت الإرادة والعزيمة والاستعداد لبذل التضحيات، لأن مثل هذا العمل الأسطوري له مبادئ وشروط وضوابط ومتطلبات أساسية تبدأ ببناء البشر قبل الحجر وإحياء الروح الوطنية ومشاركة الجميع لتحقيق هذا الهدف السامي.

وبكل أسف، فإن معاول الهدم لم يأخذ أصحابها بالحسبان هول ما ارتكبته، هذا إذا اعتبرنا أن من حملها كان صادقاً ونياته حسنة ولم يكن متعمداً وساعياً للوصول إلى ما وصلت إليه البلاد.

فمن البديهي القول إن الهدم يحتاج إلى لحظة واحدة لكي يكتمل، وإن الحرائق تأتي من مستصغر الشرر وتنشب بسرعة فائقة من عود ثقاب صغير. أما البناء، فيحتاج إلى سنوات وعقود ويتطلب جهوداً جبارة وأموالاً تقدر بعشرات البلايين من الدولارات.

هذا الواقع يعني أن المسؤولية، في حال تحقيق السلام، تقع على عاتق الجميع من حكومة ومواطنين وهيئات وطنية ومدنية ودينية وأدبية وعلمية وفنية ورجال أعمال ورجال إعلام، لكي يوجّهوا الجمهور التوجيه الصحيح الذي يحض المواطنين على المشاركة وتحمّل التبعات، وإحياء الروح الوطنية لرأب الصدع وتضميد الجراح وبناء مستقبل آمن ومستقر وزاهر.

إلا أن هذه المبادئ لا يمكن أن تبصر النور قبل توفير البيئة الصالحة لها من إرادة صلبة وبناء مجتمع متماسك تسود فيه العدالة وسيادة القانون والمساواة. فالطريق صعب وطويل ويحتاج إلى صبر وإيمان وتصميم على مواجهة الصعاب.

ولا يتم ذلك إلا بوضع خريطة طريق تنهي أزمة الثقة بين السلطة والمواطن وتبني سياسة وسطية تنبذ العنف والتطرف والبناء على أسس سليمة لا يكون فيها عزل ولا اجتثاث ولا إقصاء لأي طرف، وفق عقد اجتماعي جديد يؤمن مشاركة الجميع وفتح صفحة جديدة لا أحقاد فيها ولا كراهية، بل وحدة وطنية لا تمييز فيها بين دين ومذهب وطائفة وعرق.

أما الهدف الملح الآخر، فيقوم على إعادة النظر في مناهج التعليم لمواكبة روح العصر لأنه لا أمل بشعب أمي أو نصف أمي ولا فائدة لتعليم قاصر ومتخلف. هذه المهمة الشاقة ضرورية لمعركة الإعمار، علماً أن مئات المدارس والجامعات دمّرت ومئات الآلاف من الطلاب حرموا من التعليم وتحولوا إلى أميين لا مستقبل لهم إن لم يتم تدارك الأمر وتعويض ما خسروه أيام الحرب.

أما الصعوبات الأخرى، فتحتاج إلى جهود جبارة نظراً إلى تعقيداتها، وأولاها مسألة إعادة اللاجئين والنازحين الذين يقدّر عددهم بأكثر من عشرة ملايين يحتاجون إلى إعادة تأهيلهم وإسكانهم في مدنهم المدمرة. وهذا يحتاج إلى قرار ووضع دراسات ورصد أموال وطاقات وصبر على عودة على مراحل تحتاج إلى وقت طويل، ما يعني أن معظم اللاجئين سيبقون في مخيماتهم فترة حتى تتوافر الإمكانات وتصل البلاد إلى شاطئ الأمان والسلام المضمون.

وهنا أيضاً، لا بد من بناء البشر قبل الحجر بالنسبة إلى النازحين والمواطنين الذين بقوا في ديارهم وتعرضوا لشتى أشكال الرعب من مشاهد القتل والقصف والدمار ومآسي الجوع والفقر وانقطاع المواد الحياتية الضرورية. فمعظم الناس يحتاجون إلى إعادة تأهيل نفسي لكي يقبلوا على الحياة بنفسية متفائلة بعد علاج العقد والمخاوف التي تحولت إلى مرض عام.

أما بالنسبة إلى الأمور الأخرى، مثل بناء المؤسسات العامة والخاصة، فهي أسهل قليلاً إذا توافرت الأسباب وإمكانات الانطلاقة الكبرى، إلا أن المطلوب هو عدم الاكتفاء بإصلاح ما تهدم، بل العمل على إعادة البناء على أسس حديثة، وفق مقتضيات العصر والتكنولوجيا طالما أن الفرصة سانحة للتخطيط السليم لحل المشكلات المستقبلية، مثل المعاملات الرسمية وأزمة السير وتأمين فرص العمل.

وكل هذا لن يتحقق من دون وجود قرارات حاسمة للمحاسبة والشفافية ومحاربة آفة الفساد التي أفقرت الشعوب ودمّرت الروح الوطنية وتسببت في التخلف عن الركب وعدم تأمين لقمة العيش الكريمة للمواطن.

هذه الأمور تبدو سهلة، لكن تعقيداتها كبيرة إذا لم تتوافر الروح الوطنية والاستعداد للتضحية والصبر. فهناك مشكلات فرعية، لكنها تتعلق بأمور حياتية، مثل القضايا القانونية بالنسبة إلى الملكية والإرث وإثبات الوفاة ومصير الأبنية المدمرة ومالكيها ومستأجريها وفقدان أفراد من العائلة، ومأساة الأيتام والأرامل والمطلقات اللواتي فقدن أزواجهن ولا يعرفن شيئاً عن مصيرهم، ما يبقيهن في حالة قانونية صعبة.

كل هذه المعطيات قد تبدو ثانوية أمام أهوال الحرب ونتائجها الكارثية ومآسي آلاف المعاقين والجرحى وقمع عصابات السرقة والخطف، إلا أن الواجب يدعو إلى الاستعداد لمرحلة ما بعد السلام.

والأمل كبير في الشعوب. والشعب السوري معروف بصبره ووطنيته وقدرته على الإبداع والتضحية، كما أن هناك حماسة لدى رجال الأعمال للمساهمة في الإعمار ووضع الخطط والدراسات العلمية على أحدث الطرق لتحقيق هذا الإنجاز المنتظر.

وباختصار، فإن الإعمار في حالتي الحرب والسلام هو مسؤولية مشتركة بين المواطن والدولة بكل أجهزتها، وفق مبادئ الشفافية ليؤدي كل إنسان دوره مهما كانت الظروف، إضافة إلى مكافحة الفساد بحزم بعد تطهير البلاد من الإرهابيين وإخراج القوى الأجنبية.

وما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من إنجازات يدعو إلى الإعجاب بشعوب بعض الدول، وبينها اليابان وألمانيا. فقد انكب كل مواطن على العمل، بلا كلل ولا ملل في سبيل وطنه وعاش على الحد الأدنى من الحاجات الإنسانية لأكثر من عقد من الزمن، حتى وصل البلدان إلى ما وصلا إليه من قوة ومركز مالي وعلمي متقدم.

هاتان التجربتان معروفتان، ولا داعي لشرح أكثر، لكني قرأت قبل أيام (في «فايسبوك») معلومات لافتة عن كوريا الجنوبية، أردت أن أنقلها إلى القرّاء الكرام، فقد زارها الجنرال ماك آرثر، قائد القوات الأميركية في شرق آسيا التي هزمت اليابان وحاربت إلى جانب كوريا الجنوبية في وجه كوريا الشمالية، ورفع تقريراً قال فيه: «هذا البلد مدمَّر تماماً، وصار أشبه بمجاهل أفريقيا». أما مبعوث الأمم المتحدة، فكان أكثر قسوة وتشاؤماً، إذ قال: «هذا بلد يعيش أهله في القرون الوسطى... كيف لزهرة أن تزهر في مقلب قمامة؟».

لكن الشعب الكوري انتفض وتحدى العالم، على رغم أن خسائر الحرب (١٩٥٠-١٩٥٣) بلغت نحو ٦٩ بليون دولار، وطاول الدمار البنى التحتية والاقتصادية والصناعية وبلغت الخسائر البشرية أكثر من ٣٠٠ ألف كوري وعمت الفوضى والأمراض، وقد واجهها الرئيس الجنرال بارك تشونغ بحض الشعب على التضحية، قائلاً له: «إن لم نتغير نحن، فلن تتغير كوريا... ويمكننا البكاء والسخط على أحوالنا ويمكننا أيضاً العمل على تغيير هذه الأحوال».

بعد ٣ عقود تحولت كوريا الجنوبية من ثالث أفقر دولة في آسيا إلى إحدى أقوى الدول في العالم، فناتجها القومي هو أكبر من ناتج كثير من الدول، وفيها أفضل تعليم، وتعد سادس قوة عسكرية في العالم، ونسبة المتعلمين تبلغ ٨٠ في المئة، واقتصادها في المركز الحادي عشر في العالم، وفيها أسرع شبكة «إنترنت»، وتتصدر شركاتها في مجالات عدة، مثل «سامسونغ» و «LG» و «Daewoo» و «هيونداي» للسيارات... وغيرها.

كل هذه الإنجازات الهائلة تحققت بفضل الوطنية والتضحية والإيمان بأن من لا يعمل شيئاً لا يحصل على شيء. هذا ما أنجزه المواطن الكوري الجنوبي، فهل يقتدي به المواطن العربي... ولم لا؟ فالله عز وجل أرشدنا إلى الطريق بقوله: «وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»، و «إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم»، صدق الله العظيم الذي دعانا إلى الصبر وعدم اليأس.