يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

من ابتلي بتكفير الآخرين، لمجرد أنه يختلف معهم في بعض المسائل التي ربما تكون من الفروع، فإنه لن يتورع عن إلصاق تلك التهمة حتى بمن هو منارة في دينه وعلمه وورعه. آفة التكفير لم يسلم منها حتى الأئمة والعلماء الراسخون في العلم، حتى لقد رمي بها أئمة كبار، كالبخاري والنسائي والطبري، وغيرهم، ممن كانوا ضحية لخصوم، يجمعون إلى بضاعة مزجاة في العلم، قلة ورع.

كنت قد كتبت عن محنة الأئمة: البخاري والنسائي والطبري، والحارث المحاسبي، والإمام السبكي، صاحب(طبقات الشافعية)، مع من رماهم بالضلال والزندقة، بل والإلحاد، كما حدث مع الطبري، واليوم أكتب عن ذات المحنة مع إمام آخر، هو الإمام الترمذي.

الإمام الترمذي، صاحب السنن المعروف، وقع، كغيره من الأئمة الكبار، ضحية للتكفير، لا لأنه خالف أمرا مقطوعا به من الدين بالضرورة، بل لأنه أبدى رأيه في مسألة، ليست فرعية فحسب، بل إنها مما اختلف الفقهاء والمتكلمون في شأنها؛ إذ إنها تتصل بصفة إلهية، من جنس تلك الصفات التي يوهم ظاهرها تشبيه الله بخلقه، وهو الذي قال:" ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".

من المعلوم أن ثمة نصوصا تتضمن صفات لله تعالى، إن أُخِذَتْ على ظاهرها، فتصل إلى تشبيه الله تعالى بخلقه. ولقد اتخذ السلف رحمهم الله تعالى قاعدة لتفسير تلك النصوص، قاعدة مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض؛ فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ". ومعنى قوله(فكلوه إلى عالمه)، أي فوضوا أمره إلى الله تعالى، إن لم تستطيعوا تأويله بما يؤدي إلى (صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر مقصود في لغة العرب). ولقد كان هذا دأب السلف، فيما يتصل بالنصوص التي يوهم ظاهرها تشبيه الله تعالى بخلقه، إلا فرقة شاذة، وصفتها مصادرنا بـ(الحشوية، أو المجسمة)، التي أصرت على أن تقرأ تلك النصوص على ظاهرها. وهؤلاء وصفهم أبو الوفاء بن عقيل بقوله:" هم قوم خُشُن، تقلصت أخلاقهم عن المخالطة، وغلب عليهم الجد وقل عندهم الهزل، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرجاً من التأويل، وغلبت عليهم الشناعة، لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار من غير تأويل ولا إنكار".

الإمام الترمذي، صاحب السنن المعروف، وقع، كغيره من الأئمة الكبار، ضحية للتكفير، لا لأنه خالف أمرا مقطوعا به من الدين بالضرورة، بل لأنه أبدى رأيه في مسألة، ليست فرعية فحسب، بل إنها مما اختلف الفقهاء والمتكلمون في شأنها..

يقول الحافظ بن حجر في الفتح(1/225)، واصفا منهج السلف في التأويل والتفويض،:" فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به إلى التجسيم، ومن لم يتضح له، وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها، إما أن يكذب نقلتها، وإما أن يؤولها". وذلك يعني أن لا مناص أمام تلك النصوص التي يحمل ظاهرها تشبيها لله تعالى بخلقه، إلا التأويل أو الفويض.

من ضمن تلك النصوص، ما يتصل بتفسير قوله تعالى:" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا"، إذ روى بعض المجسمة تفسيرا نسبوه إلى مجاهد، هو أن الله يجلس النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش؛ وبما أن هذا التفسير، بغض النظر عن صحة نسبته لمجاهد من عدمه، لا بد وأن يفضي إلى التحيز المكاني، مما ينزه عنه الله تعالى، لم يكن أمام الإمام الترمذي رحمه الله، وعلى عادة السلف في التأويل أو التفويض، إلا رد هذا التفسير المفضي إلى التجسيم؛ وهو بذلك، متبع لنهج السلف، في تأويل، أو تفويض النصوص التي يوهم ظاهرها التشبيه أو التجسيم. والغريب أن الاختلاف بشأن هذا التفسير جر إلى حرب شوارع وسفك دماء في بغداد، في القرن الرابع الهجري، فلقد ذكر أبو الوليد بن الشحنة في كتابه( روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر) أن فتنة عظيمة قامت في بغداد، أوقد أوارها عوام الحنابلة، بسبب الاختلاف حول تفسير قوله تعالى:" عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً"، ذلك أنهم قالوا: معناها أن الله يُجلس محمداً معه على العرش، فيما قال مخالفوهم: معناها الشفاعة، فتقاتل الفريقان، فقتل من الجانبين خلق كثير! وهكذا استرخص أولئك العوام قتل النفس التي حرم الله، لمجرد تفسير ظني لآية قرآنية!

من هنا، لم تكن تخطئة أولئك للإمام الترمذي في رده لتفسير مجاهد، إن صح عنه، من النوع المقبول، الذي يتخذ من قاعدة الاختلاف المقبول أساسا له، بل إنهم نظروا إلى عدم قبوله لذلك التفسير على أنه صفة من صفات (الجهمية)، أتباع الجهم بن صفوان، في تعطيل الصفات. والرمي بالجهمية سيؤدي حتما إلى التكفير.

ينسب إلى الخلال في(السنة) أنه قال:" وقال أبو علي إسماعيل بن إبراهيم الهامشي: إن هذا المعروف بالترمذي عندنا مبتدع جهمي، ومن رد حديث مجاهد،(يقصد تفسير مجاهد للمقام المحمود، بأنه جلوس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش)، فقد دفع فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن دفع فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عندنا كافر مرتد عن الإسلام". ولعل هذا منحول على الخلال، من قبل تكفيريين، أرادوا استخدامه كرمز سلفي، لتمرير مشروعهم التكفيري ضد الإمام الترمذي رحمه الله!

والمصيبة أن المسألة التي كُفِّرَ بها الترمذي، كما في كثير من المسائل التي كُفِّر بها أبرياء كثر، ليست من مسائل الدين المقطوع بها، حلا أو حرمة، بل إن موضوعها مما لم يتكلم عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يخض به الصحابة الكرام، ولا تابعوهم، وإنما هي مسائل(كلامية) أستحدثت على خلفية الصراع مع الفرق الكلامية، التي نشأت في أواخر القرن الأول. نتذكر في هذا المجال، المسألة الكلامية التي كُفر بها إمام كبير كالبخاري، إذ كان يقول، مثلما يقول كثير من السلف حينها،:"لفظنا بالقرآن مخلوق"، فكانت تلك الكلمة البسيطة سببا في تكفيره، ومضايقته في البلدان تنقل فيها هربا من المحتسبين على الأفئدة والأفكار!

وأختم بما ذكره ابن الأثير في كتابه(الكامل في التاريخ)، من أن بعض ( عوام الحنابلة) اتهموا الطبري بالرفض والإلحاد، ثم ذكر عن الوزير العباسي قوله، تعليقا على هذا الاتهام للطبري، "والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه".

قلت، وهذا دأب كثير من عوام زمننا هذا، والذين يضللون، إن لم يكفروا مخالفيهم، بناء على مفاهيم ومصطلحات لا يدركون معناها.