حسن حنفي 

كثر الحديث عن «الخط الأحمر» هذه الأيام. فكثرت الخطوط الحمراء حتى لم يعد الإنسان قادراً على السير في أي اتجاه. وعادة ما تستعمله السلطة السياسية والدينية لإيقاف خطر داهم لا يقوى المجتمع على الصمود أمامه. يُستعمل كأنه مظهر قوة، وأن ما وراء الخط الأحمر هناك الأسُود والنمور المفترسة، والبراكين المشتعلة! فلا داعي لإلقاء النفس إلى التهلكة. وهو في الحقيقة مظهر ضعف وخوف، وكأن البعض عاجز عن المواجهة وخائف من المجهول. واللون الأحمر من الألوان الفاقعة ذات الدلالة المزدوجة على الخطر والفرح، الحظر والإغراء.

ومن كثرة الخطوط الحمراء وشدتها يتحول ما وراء الخط الأحمر إلى «تابو»، أي إلى مصدر للخوف والرهبة. ثم يتحول شيئاً فشيئاً إلى مقدس لاتقاء غضبه وجلب رضاه. وكلما زاد الجهل به اشتد الخوف. وكلما اشتد العجز أمامه عظم التقديس لتحويل العجز إيهاماً إلى قوة. ويُعوض عن الجهل بالخرافة والأسطورة. فالخرافة تقوم بدور الوئام المعرفي. والأسطورة تقوم بدور المعرفة الشعبية للتعامل مع المجهول.

وفي ثقافتنا خطوط حمراء ثلاثة تحولت إلى مقدسات يتقرب إليها أو محرمات لا يجوز الاقتراب منها: الدين، والسلطة، والجنس. ولم يمنع الخط الأحمر الناس من عبوره أحياناً سواء في إشارات المرور، أو في المحاذير الدينية والاجتماعية والسياسية.

أما بالنسبة للعقل فإنه لا خطوط حمراء فيه. فوظيفته ارتياد المجهول، والبحث عن الأسرار. العقل لا حدود له. ولا موانع أمامه. وهو شرط تقدم العلم. وقد حاول ديكارت زعيم العقلانيين الغربيين وضع خطوط حمراء على العقائد والنظم السياسية والتقاليد. واستثناها من منهج الشك. إلا أن اسبينوزا تلميذه رفض هذه الاستثناءات الديكارتية فطبق عليها منهج العقل، وانتهى إلى أن الحرية ليست خطراً على الإيمان ولا على سلامة الدول، بل إن القضاء على الحرية فيه تهديد للإيمان وسلامة الدول.

ويسهل وضع الخط الأحمر في ثقافة التحريم التي تعودت على المنع والإبعاد والإقصاء. وهي ثقافة المنع. إذ قد يأتي الاستبداد من داخل هذه المناطق المحرمة حتى يتعوده الناس. وهي ثقافة القمع لأن تجاوز الخط الأحمر يجلب العقاب العاجل أو الآجل. ولذلك قامت مناهج التعليم من المراحل الأولى حتى الجامعة على القمع والزجر والمنع.

وهي ثقافة التكفير التي نعاني منها. فإذا تجرأ أحد وعبر الخط الأحمر وأدلى برأي فإنه قد يُتهم بالكفر لأنه فكر فيما لا يفكر فيه، وعبر ما لا يمكن عبوره. فنحن الذين ندفع إلى الاتهام بالكفر لوضع الخطوط الحمراء التي قد يقترب منها العقل أو يتجاوزها من دون أن يقابل الرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان.

فلماذا لا نتحول من ثقافة الخط الأحمر إلى ثقافة الخط الأخضر، من ثقافة المنع والزجر والتحريم إلى ثقافة السماح والقبول والحلال؟ لماذا نسأل عن الحرام مع أن الأشياء في الأصل على الإباحة. وبدلًا من أن يشيع الخط الأحمر في النفس الخوف والوهم، ويقوم على الجهل والخرافة، فإن الخط الأخضر يدل على الثقة بالنفس، والرغبة في المعرفة، وارتياد المجهول، وعدم الخوف من المستقبل. والعاقل قادر على أن يعرف ما لا يُعرف.

إن ثقافة الخط الأخضر هي ثقافة التحرر، ثقافة الإقدام على المجهول. هي ثقافة الإبداع. ونحن نعاني إما من النقل أو التقليد. ويظل الغرب متفوقاً علينا بأنه أسقط الخطوط الحمراء الدينية، والسياسية، والاجتماعية، منذ بداية الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، وعصر النهضة في القرن السادس عشر، حتى أخذ العقل مكانه في القرن السابع عشر «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، كما قال ديكارت. فقامت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وتأسس العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر. وازدهرت التكنولوجيا في القرن العشرين. وها نحن نثور أكثر من مرة منذ الثورة العرابية مروراً بثورة 1952 وحتى ثورة يناير 2011. وفي كل مرة تقع الثورة وتعود إلى ما كانت عليه قبلها لأن الخطوط الحمراء ما زالت موجودة، بل تزيد جيلًا وراء جيل، من دون أن نعلم أن اللون الأحمر هو أيضاً لون الدم، والنار التي تحرق.