سمير عطا الله 

اعتبرت ريتا هيوارث واحدة من أهم وأجمل 25 ممثلة عرفتهن هوليوود خلال مائة سنة من تاريخها. مثلت في 61 فيلماً خلال 37 عاماً، كان أشهرها «غيلدا»، الذي أنسى العالم اسمها الحقيقي، أو بالأحرى الفني، لأنها ولدت في نيويورك عام 1918 لأب إسباني وأم آيرلندية تحت اسم كانسينو.

على أن أشهر ما عُرفت به «غيلدا» زواجها من الآغا خان علي، زعيم الطائفة الإسماعيلية في ذلك الوقت، وقد رزقت منه ابنة سمياها ياسمينة.
أواخر السبعينات كنت أكتب لمجلة «المستقبل» في باريس. وفي سبتمبر (أيلول)، من كل عام، كنت أسافر إلى نيويورك لتغطية الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة. ذلك الخريف استقللت الطائرة، وكان مقعدي إلى النافذة. ثم ملأت المقعد إلى جانبي سيدة في نحو الستين من العمر، ألقت تحية الجوار بلطف. وعندما أعلن قائد الطائرة فك الأحزمة، عادت السيدة فألقت تحية أخرى، أدركت أنها تريد تبديد ملل الرحلة والساعات الثماني، لكن كان لديّ مشروع آخر: أن أنام نصف الرحلة على الأقل، وأن أقرأ خلال النصف الآخر.
قدمت لنا المضيفة وجبة العشاء، فتناولتها، وأسندت رأسي إلى النافذة، ونمت. أدركت جارتي أن لا أمل، لكنها لم تنم، بل انصرفت إلى قراءة كتاب تحمله معها. وعندما أفقت بعد نحو ثلاث ساعات، وضعت الكتاب جانباً، وحاولت أن تفتح المحادثة مرة أخرى. ومرة أخرى اختصرتُ الجواب بأدب، لكن بوضوح، وانصرفت أقسم باقي الوقت بين النوم والقراءة.
كنت أفكر طوال الوقت أن السيدة تريد شريكاً في المحادثة. بل فكرت أن سلوكي فظ. ولكن استسلمت للخيار الأول: الالتزام بالصمت أضمن من محادثة في المجهول. وكان هناك سبب آخر؛ ففي تلك المرحلة كنا نتحاشى التحدث إلى غريبات أو غرباء، لكي لا تنتهي المسألة بخلاف حول القضية الفلسطينية، الماثلة في كل مكان بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول).
كانت الرحلة هادئة. ثم أيقظتنا المضيفة قبيل الهبوط لتناول القهوة والحلويات. سرَّحت جارتي شعرها برفق، ودققت في مرآتها الصغيرة، ثم التفتت إليّ: «هل تقيم في نيويورك؟». لا. أجبت أخيراً، مجرد مهمة صحافية في الأمم المتحدة. آه، قالت السيدة في صوت يخيل إليّ أنني سمعته في مكان ما: «أنت صحافي. أنا ريتا هيوارث».
بماذا أجيب؟ أنا أغبى صحافي في أجواء العالم هذه اللحظة؟ أنا الصحافي الذي ستصبح شهرته بأنه رفض الحديث إلى «غيلدا»؟ عرضت عليها بعد الهبوط أن أساعدها في حقائبها، لكنها رفضت. جاء دورها الآن. ومضت في الزحام. وجلست في المساء أكتب لـ«المستقبل» أول رسالة من نيويورك. ولم تكن عن الأمم المتحدة.
إلى اللقاء...