شتيوي الغيثي 

القضايا التي يريد بعض المثقفين أو السياسيين أو الإعلاميين العرب أن يتبنوها، ليست هي القضايا التي تشغل الذاكرة الخليجية

في الواقع الخليجي لم تكن الأمور ذات إشكالات كبيرة في بناء الدولة، خاصة بعد استقرار كثير من أنظمتها السياسية وتشكلها ككيانات مكتملة ومستقلة وذات حدود مرسومة وواضحة، ففي الوقت الذي كانت فيه بعض الدول العربية تعيش حالات متشابهة من الاضطرابات السياسية أو مشكلات طويلة في التنمية، كانت دول الخليج تسير بشكل أفضل من غيرها في بناء الدولة والمجتمع.
في غضون سنوات قليلة كانت دول الخليج تعيش حالة من الرفاه الاقتصادي والمجتمع، وحينما تكون هناك أزمات اقتصادية فإن الأساسات الاقتصادية والمجتمعية تبقى راسخة وقوية. أذكر أنه في منتصف التسعينات كان برميل النفط في أقل أسعاره عالميا، وطالت هذه الحالة سنوات عديدة، لكن بقيت السعودية ودول الخليجي بشكل عام دولا ذات اقتصاد ريعي جيد، ولم يؤثر على المعيشة اليومية للناس، كما لم يؤثر في بقاء التنمية في المجتمع. وحدها حرب الخليج كانت الأزمة الأصعب التي مرت على الكويت والسعودية، لكن وخلال أشهر قليلة عادت الأمور إلى ما كانت عليه. غير ذلك بقي الخليج بشكل عام بعيدا عن الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف في المنطقة العربية بسبب تبني بعض الدول الأيديولوجيات الاشتراكية التي لم تكن مناسبة في صنع سياسات متزنة في المنطقة، إضافة إلى إشكالات التيارات الدينية الجهادية التي جاءت بعد حرب الخليج وحاولت أن تفرض نفسها بالقوة قبل أن يتراجع وهجها مؤخرا وتنكشف الكثير من القضايا التي كانت تدافع عنها، ليعرف الناس أنها لم تكن تيارات إصلاحية بقدر ما أنها تيارات طابعها العنف أكثر من الاستقرار. 
غير هذه الإشكالات كانت دول الخليج دولاً ذات اقتصاد جيد، ودولا تنموية إلى حد ما، لا على المستوى العمراني ولا على المستوى الإنساني، إذ انتشر في أبناء الخليج العربي التعليم، ومعدلات النمو التعليمي في الأسر السعودية عالٍ إلى جانب معدلات الصحة ليختفي عدد من الأمراض التي كنا نسمع عنها كالجدري وغيره، فضلا عن أن أبناء الخليج وصل عدد منهم إلى مناصب عليا في بلادهم، أو كان لهم تأثير قوي في البلاد المجاورة، لكن هذا كله لم يكن ليرضي بعض الدول العربية وكأن الخليج كان يحمل وزر فشل تلك الأنظمة، في حين أنه لم يتدخل بها، وإنما بنت دول الخليج ذاتها من غير أن تتورط في مشكلات طويلة مع السياسات العربية المختلفة التي كانت ترى أن النفط حق عربي كامل، وليس خليجيا، لتطالب بأشبه ما يكون بحصص خاصة لها، ورغم أن دول الخليج كانت تعين أخواتها من الدول العربية إلا أن هذه الإعانات كان ينظر لها من قبل تلك الدول كفريضة اقتصادية على الخليجيين أن يدفعوها، فالذاكرة الخليجية ما زالت تحتفظ بتلك الصفات التي يصفها بعض العرب بأنهم أصحاب الإبل والنفط دون النظر إلى التطورات التي صارت عليها دول الخليج.
الذاكرة الخليجية تجاه الآخرين كانت تحمل صورتين صنعتهما أحداث بناء الدول في منطقة الخليج: الصورة الأولى في الذاكرة هو صورة الفضل لأهل الفضل الذين كانت أياديهم العاملة إلى جانب الأيادي الخليجية، وهذه الأيادي لم تكن عربية فقط، بل كانت غربية وشرقية، ولذلك كانت صورة الآخر في النظرة الخليجية ليست هي صورة الغازي الاستعماري كما هو الحال في باقي الدول العربية التي عانت من الاستعمار بالفعل، وجاءت تنظيراتها الفكرية والسياسية ضد فكرة الاستعمار، في حين هذا الأمر لم يحصل في دول الخليج، بل العكس تماما كانت الدول الغربية أو الشرقية الآسيوية عاملا من عوامل نهضة الخليج، ولذلك بقيت هذه الذاكرة جيدة في العديد من المواقف التي حصلت، بما في ذلك حرب الخليج التي جاءت القوات الأميركية لتشارك في إعادة الكويت إلى أهله بعد الاحتلال.
الصورة المقابلة في الذاكرة الخليجية هي تلك الصورة التي حصلت جراء الصراعات العربية حول مفاهيم سياسات الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية، والتي كانت وقتها تهاجم الدول الخليجية بوصفها دولا رأسمالية أو متحالفة مع الغرب، في حين أن الأمر لم يكن كذلك مطلقا، وإنما هي شراكات اقتصادية من أجل النهوض بالمجتمعات الخليجية، ولذلك لم يحصل للخليج ما حصل لبعض الدول العربية الأخرى من استعمار أو غيره، ولم يحصل للخليجيين كذلك ما حصل لبعض دول أميركا التي كانت أراضيها غنية بالمعادن والنفط واستغلتها الدول الكبرى لنهب ثرواتها لتبقى شعوب أميركا اللاتينية في فقر مدقع أحيانا. هذا كله لم يحصل في منطقة الخليج، فثروات الخليج بقيت في الخليج واستثمرتها الدول الخليجية في بناء دولها، لكن الصراعات العربية كانت تحاول أن تمد جذورها إلى منطقة الخليج لتتبنى أفكارها أو قضاياه التي تختلف تماما عن قضايا الفرد الخليجي، ومع استفادة بعض الدول العربية، سواء بحصول مواطنيها على وظائف جيدة في الخليج أو معونات مباشرة لتك الدول، إلا أن التنظيرات الفكرية والمواقف السياسية حتى من بعض الذين عاشوا في الخليج كانت مواقف متأثرة بما قبل عملهم بالخليج، والأخطر في هذه المسألة أن بعض هؤلاء العرب كانوا وما زالوا يعملون في بعض القنوات الفضائية، ليعيدوا تكرار تلك الصورة من جديد بطرق جديدة ومؤثرة دون الشعور بالامتنان لهذه الدول التي كانت فرصة لهم لتطوير حياتهم، فلطالما احتضن الخليج أعدادا كبيرة من الإخوة العرب لكن يبقى البعض (لست بحاجة إلى تكرار أنهم ليسوا كلهم، بالطبع فهناك من هو حافظ للود) يحمل تلك التصورات عن الخليج بوصفهم رعاة إبل رزقهم الله بالنفط ويجب أن يدفعوا ضريبته للدول العربية.
لم يكن أهل الخليج لديهم عقدة من الآخر، بل كان الآخر في تصوراتهم يداً عاملة ومساعدة في بناء دولهم، لذلك فإن القضايا التي يريد بعض المثقفين أو السياسيين أو الإعلاميين العرب أن يتبنوها، ليست هي القضايا التي تشغل الذاكرة الخليجية، لأن سياقات نشوء تلك الدول والمجتمعات تختلف عن بعضها البعض.