طلال صالح بنان
منذ أكثر من 1400 سنة، وبالذات عندما دخل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب القدس وهو يجر بغلته ومرافقه راكبٌ عليها، ولم يعرفه أهل القدس ظناً منهم أنه، رضي الله عنه هو من كان يركبُ البغلة وليس مرافقه.. من يومها لم ينقطع الأذان من فضاء القدس، ولم تتوقف الصلاة في المسجد الأقصى. حتى زمن الصليبيين، الذي امتد لقرابة مئة سنة (١٠٩٦ - ١١٨٧)، واتخذوا من المصلى المرواني أسفل المسجد الأقصى، إسطبلاً لخيلهم، لم يرد أن انقطع الأذان، أو توقفت الصلاة في المسجد الأقصى، رغم مقتل ٤٠ ألفا من المسلمين عند دخول الصليبيين القدس.
فقط في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وفي أوج توحش اليهود طوال تاريخهم، تَعمَد سلطة الاحتلال الإسرائيلي، إلى جرأة تتصف بأبشع صور الوقاحة العنصرية والتطرف الديني وإرهاب الدولة الممنهج، لإغلاق المسجد الأقصى ومنع رفع الأذان من مآذنه.. والحؤول دون المسلمين والصلاة فيه وفي باحات حرمه. بينما تسمح سلطات الاحتلال للنَجَسِ من صهاينة يهود، استباحة حرمة المسجد الأقصى وتدنيسها وهم مدججون بالسلاح.. وتحت حماية الجيش والشرطة الإسرائيلية.
إسرائيل بهذا الخطب الجلل لم تتحد العرب وحدهم، بل العالم بأسره، الذي انتهى منذ أيام فقط في آخر اجتماع لليونسكو، من الإقرار بعدم أحقية اليهود في القدس، باعتبارها: مدينة عربية فلسطينية خالصة تحت الاحتلال الإسرائيلي. مع ذلك تحاول إسرائيل أن تحول احتلالها البغيض للقدس، إلى شكل من أشكال السيادة على المدينة المقدسة، على مرأى ومسمع من العالم!
إسرائيل، منذ الساعات الأولى لاحتلالها القدس في حرب ١٩٦٧، وفي ذهن حكامها الصهاينة، تهويد القدس، بزعم توحيدها عاصمة أبدية للدولة اليهودية! حال احتلال القدس جرى هدم حارة المغاربة.. ١٩٨٠ جرى ضم القدس العربية لدولة إسرائيل.. وجرت عملية ممنهجة لتقويض أساسات المسجد الأقصى بزعم البحث عن الهيكل المزعوم، تمهيداً لإعادة بنائه على أنقاض المسجد الأقصى، إلى أن وصل الأمر أخيراً لحد وضع بوابات إلكترونية لتفتيش المصلين المسلمين عند دخولهم المسجد للصلاة فيه. مع كل تلك الإجراءات التي تتخذها إسرائيل لتهويد القدس، يخرج نتنياهو ويدعو العرب والمسلمين لزيارة القدس، ليروا كيف أن حكومته «أمينة» على وضع القدس، ولا تعمل ما من شأنه تغيير الطبيعة الجغرافية والديموغرافية، للمدينة المقدسة!
الغريب أن بعض العرب يصدقون نتنياهو، في هذه المزاعم، بل إن البعض منهم يجدون مبرراً لوضع بوابات إلكترونية عند مدخل الأقصى، لإجراءات أمنية! إلا أن ما يغيب عن الجميع أن الاحتلال نفسه، هو المتغير الأمني الأساس في المشكلة برمتها. ليخرج الاحتلال الإسرائيلي من القدس والأراضي العربية المحتلة، ويحل - اليوم التالي - السلام والأمن في الأراضي المقدسة في فلسطين، بل والمنطقة والعالم بأسره.
كيف يعقل أن يقبل الفلسطينيون، الذين يؤمنون بأنهم أهل الرباط أن يسمحوا للمحتل أن يحول بينهم وبين معقل رباطهم.. وميقات صلاتهم الزماني والمكاني. لو العالم، بأسره خذلهم، لن يتهاونوا في القيام بمسؤوليتهم التاريخية في حماية مسرى رسولهم ومنطلق معراجه، عليه الصلاة والسلام لسدرة المنتهى، مهما كلفهم ذلك من تضحيات.. ومهما بلغ هوان العرب والمسلمين وتهاونهم بقضية الأقصى، حتى يُفك أسره من احتلال يهود، كما سبق وأُعتق حرمه ومدينة القدس بأسرها وفلسطين كلها، من الصليبيين.
قد يكون لمنطق السياسة ما يُفَسَّر به سلوك الكثير من الدول العربية والإسلامية، الذي لا يرتقي لمستوى التصدي للمسؤولية التاريخية التي تقع على عاتق الجميع، للتصدي للعجرفة الإسرائيلية التي هي الآن في أشرس مراحل حركتها العنيفة الرعناء. مع ذلك تظل قضية نصرة الشعب الفلسطيني ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي البغيض للقدس، من أهم مرتكزات شرعية الأنظمة السياسية، عربياً وإسلامياً.. بل ومن أنبل قيم العالم الحر، على مستوى العالم. الشعوب العربية.. بل وشعوب العالم الحر لا يمكن أبداً أن ترضى، أو حتى تتسامح، مع أي حل لمشكلة الشرق الأوسط، كما يحلو للبعض تسميتها، خارج حل عادل للقضية الفلسطينية، وعودة السيادة العربية لمدينة القدس. أي حل خارج هذا الإطار لن يُكتب له النجاح.. ولا يمكن أن ينتج عنه سوى تكريس عدم الاستقرار للمنطقة.. ونشر بذور العنف في أرجائها، والعالم.. وتعطيل أي جهود جادة للتنمية والتكامل بها... بل وحتى الإضرار بسلام العالم وأمنه.
احتلال القدس هو أُس المشكلة.. ومحاولة تهويدها، هي الكارثة التاريخية والإنسانية، التي ستحيق بالعالم، إن سُمح للصهاينة المضي في مخطط التهويد الجهنمي هذا. مهما حاولت إسرائيل استخدام وسائل القمع الرهيبة التي تمتلكها، فإنها لن تستطيع أن تشوه جمال المدينة المقدسة..
ولن يتمكن غلاة اليهود الصهاينة من تدنيس المسجد الأقصى.. ولن يقدر من هم وراء إسرائيل بدعمهم الأرعن لها، أو بسكوتهم المهين على جرائمها، أو بتواطئهم وتنكرهم لمسؤولياتهم التاريخية تجاه شعوبهم والتاريخ، أن يمنعوا رفع الأذان في فضاء المدينة المقدسة.. أو يحولوا بين المسلمين والصلاة في المسجد الأقصى، وساحات حرمه الشريف.
ستظل القدس زهرة المدائن.. وبهية المساكن.. وأرض الرباط، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، رغماً عن أعداء السلام والإنسانية، مهما مد لهم من حبال أشرار البشر.
التعليقات