جاد الحاج 

لعل جورج خباز هو الفنان اللبناني الأكثر تنوعاً والأكثر تواضعاً، بل لعله اليوم فنان الشعب، ومحط تقدير الجميع بلا مبالغة. في عمله الأخير لمهرجان «إهدنيات» الذي انطلق مساء امس الأول، قفزة ريادية ذات بعدين، الأول طليعي، والآخر تاريخي.

«موسيقى السينما» عنوان الأمسية، يقدم الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام العالمية التي تركت اثراً مفصلياً في العصر الحديث، وقد أخذها جورج خباز كمنطلق مشهدي للتعبير عن رأيه وانطباعاته، عن ذاكرته ومعاناة جيله، وعن واقع العالم المحيط بنا، وصولاً الى واقعنا الحاضر. يتألم الفنان علناً، يتذمر، يمعن في توصيف الهبوط والتشرذم والتخلف، لكنه ينتهي الى الرجاء ورسم زيح الأمل على الأفق المدلهم. وتلك بصمته الناعمة في كل اعماله.

على مسرح إهدن رأينا ابتكاراً مشهدياً متعدد العناصر يجمع «الكولاج» الصوري والموسيقى الحية والتمثيل والرقص والغناء. وجاء اختيار المقتطفات السينمائية مشغولاً بحرص ودقة كبيرين، كونها معالم بارزة او محطات في سياق الذاكرة الجمعية حول العالم: «سينما باراديزو» للمخرج الإيطالي غيسيبي تورناتوري، يروي حكاية مخرج سينمائي يتذكر قاعة السينما في قريته وعلاقة الصداقة بينه وبين المسؤول عن ادارة العرض، وكيف كانت افلام ذلك الزمان تؤثر ضحكاً وبكاءً في الجمهور فكأنها حياة واقعية. «بسايكو» ألفريد هيتش `كوك، والرعب الفج، المجاني، في عالم تكتسحه الوحدة والأمراض النفسية. «حرب النجوم» لجورج لوكاس وإرهاصات التخييل العلمي والخرافات الكونية بمخلوقاتــها وصراعاتها و«إنسانيتنا» المعكوسة من خلالها. العّراب لفرانسيس فورد كوبولا، وعالم الجريمة المنظمة الذي لا يبعد كثيراً عن عالم السياسة «الرسمية». روميو وجولييت، في السينما والمسرح والأوبرا والرقص، قصة الحب المستحيل بصوت الأوبرالي بشارة مفرّج. «الأزمنة الحديثة» من شارلي شابلن، الظاهرة التي أبكت الضحك وأضحكت البكاء حتى قبل ان تنطق السينما! «الرائعون السبعة» لجون ستورجزن ورعاة البقر حين استعاروا من يابان كيروساوا قصة الساموراي السبعة، وبطولة يول براينر ... ثم لفتة مفاجئة الى «بنت الحارس» للأخوين رحباني، فالحرب، فاليقظة الجديدة للسينما اللبنانية مع نادين لبكي و«كاراميل» و«هلق لوين؟»

عبرت المشاهد «الممنتجة» على شاشة عملاقة وتماهت مع حضور الأوركسترا اللبنانية بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي. الأوركسترا تعزف مـــــوسيقى الفيلم والتقطيع الممنهج للصور يوقظ الذاكرة ويومىء الى الفحوى والمضمون فتصل الرسالة كهدية الى الجمهور- او لنكن اكثر واقعية - الى نصف الحاضرين في اقل تعديل. ذلك ان السينما العالمية اغتربت عن الواقع المــعاش في لبنان منذ ما بعد الحرب الأهليــــة ومعظم ابناء وبنات الجيل الوليد بعدها لا يعرف اكثر مما تسوّقه هوليوود على النطاق التجاري الواسع، ولذا قلة سمعوا بـ «الرقص في المطر» وقد انشدها حيّة روي خوري، كما انشدت تانيا صالح «يا مرايتي»...

أراد جورج خباز توظيف ابتكاره الجديد في توجهاته النقدية المعروفة من باب الجمع بين المادة السينمائية المشرعة على الآفاق الأربعة وبين رسالة هادفة على الصعيد المحلي تجسدت في مشاهد تمثيلية بطلها صبيّ بزغ من صنوٍ له في «سينما باراديزو» وراح يظهر في اللحظات المناسبة خلال التطور المشهدي المركب. وتقاطعت ادواره مع ثنائي يرقص باليه تمثيلياً لدى عرض مشاهد «روميو وجولييت» او خبب حصان وفارسه لدى عرض «الرائعين السبعة» أو ظهور «سوبرمان» منزلقاً على سلك معدني فوق المسرح ... نظرياً، لا غبار على هذا الجانب من الخلطة المشهدية. لكن فات جورج خباز ــ في غمار حماسته الإبداعية ــ قياس التفاوت في الأحجام بين ضخامة الشاشة بما ينعكس عليها من مشاهد وشخصيات وبين احجام الممثلين صغاراً وكباراً، حتى الحصان الذي مرّ مرتين بفارسه «الكاوبوي» امام الخشبة، بدا ضئيلاً نسبة الى حجم الخيول المتدفقة من الفيلم. وفي النتيجة جاءت الأداءات الحية اضعف من مزيج الصورة والصوت على الشاشة والمسرح، ربما لأن الفضاء المفتوح لم يساعد على تأطير الحراك المشهدي وضبطه في سياق منسجم، او لأن توزيع الأدوار بقي مشتتاً في ذلك الفضاء، ما يمكن تلافيه ضمن قاعة مغلقة.

عدا ذلك يجدر القول ان مهرجانات صيف 2017 اضافت الى الاستعراض الفني نوعاً مشهدياً جديداً من توقيع جورج خباز وإنتاج «إهدنيات».