فهد عامر الأحمدي

في الماضي كانت المعرفة نادرة وشحيحة ولا يطلع عليها غير صفوة الناس.. كانت تكتب على الصخور والجلود وألواح الخشب، وكان معظم الناس أميين لا يستطيعون قرأتها حتى لو امتلكوها.. لهذا السبب كانت لفائف الجلد وألواح الخشب تتواجد فقط في المعابد والقصور ويتم تداولها بين رجال الدين والمقتدرين من المثقفين..

لم تنزل المعرفة من عليائها (وتصبح شعبية) إلا بفضل أربعة اختراعات أعتبرهما شخصياً الأعظم في التاريخ:

الاختراع الأول هو الورق الذي صنعه لأول مرة رجل صيني يدعى تسايـلون.. ففي عام 105 نجح في تحضير عجينة بيضاء من سليلوز الخشب يمكن فردها بحيث تصبح بعد جفافها مناسبة للكتابة.. ورغم أن أباطرة الصين احتفظوا بسر الورق لأنفسهم حصل عليه العرب بعد معركة أطلس عام 751 حين أسروا جنوداً صينيين نقلوا صناعة الورق إلى العراق ــ ومن العراق إلى بقية العالم..

ورغم هذا الإنجاز المهم (ورغم امتلاء دار الحكمة بلفائف الورق) كانت هناك مشكلة نسخ المعرفة وتوزيعها على جميع الناس.. فاليوم مثلاً يمكنك زيارة أي مكتبة وشراء مئة نسخة من القرآن الكريم، أما في الماضي فكان الحصول على نسخة واحدة فقط يستغرق أشهراً طويلاً لكتابتها بخط اليد (وهذا فقط لمن يستطيعون تحمل التكلفة)..

غير أن هذه المعضلة تلاشت باختراع المطبعة التي أتاحت فرصة طبع آلاف النسخ بسعر زهيد (بل وينخفض السعر كلما ارتفع عدد النسخ).. والمدهش أن الصينيين هـم أيضاً من اخترع الطباعة بشكلها البدائي بفضل ناسخ صيني (اتعبته كثرة الكتابة) يدعى بي شنغ.. ففي عام 1045 صنع حروفاً بارزة من الصلصال كان يلصقها على قالب خشبي يقوم بكبسه على الورق.. ورغم ذكاء الفكرة لم تنتشر في الصين بسبب وجود آلاف الأحرف في اللغة الصينية وبقائها معتمداً على العضلات البشرية.. التقدم التالي حدث بعد أربعمائة عام تقريباً حين فكر الناسخ الألماني جوهانس جوتنبرج استبدال الأحرف الخشبية بأحرف معدنية أكثر وضوحاً، والقوالب الصينية المسطحة بعمود يدور آلـيـاً (استمد طاقته من ماكينة لعصر العنب)..

ورغم أن الإنجيل كان أول كتاب يطبعه جوتنبرج وقف الفاتيكان في وجه المطبعة واعتبرها اختراعاً شيطانياً ينشر المعرفة بين الرعاع.. حذر منها الملوك والأمراء ووجـه بمطاردة وإعدام ملاكها وأجبرهم على العمل سـراً.. وفي حين تراجع الفاتيكان عن عدائه للمطبعة ظلت محرمة في بلاد العرب طوال ثلاثمائة عام (تحت ظل الدول العثمانية) بحجة أنها وسيلة غربية لنشر الكفر والرذيلة بين المسلمين.. وخلال هذه الفترة أضاءت مصابيح المعرفة في أوروبا في حين ظل العرب أميين غافلين عن دور المطبعة في نشر المعرفة - حتى غزا نابليون مصر عام 1798 حاملاً معه أول مطبعة عربية لنشر دعاياته العسكرية..

على أي حال؛ لاحظوا أنني تحدثت حتى الآن عن اختراعين فقط (الورق، والمطبعة)..

والحقيقة هي أن "أول اختراع" ظهر بفضل السومريين الذين اخترعوا الكتابة وتسطير الكلام قبل صنع الورق بألف عام.. نجحوا (لأول مرة في تاريخ الإنسان) في توثيق المعرفة وحفظها من الضياع من خلال رموز مكتوبة يتفق عليها الجميع..

أما "آخر اختراع" فهو في نظري (شبكة الإنترنت) التي تجاوزت مرحلة توفير وتوزيع المعرفة، إلى مراكمتها وتكديسها وتوفيرها بلا مقابل - لدرجة غرقنا تحتها!!

باختصار شديد؛

(الكتابة) حفظت المعرفة..

(والأوراق) سهلت تداولها..

(والطباعة) نشرتها بين الناس..

أمــا (الأنترنت) فـراكمتها وصنفتها، ثـم قدمتها لنا دون جهد أو مقابل.. فهل من مستفيد!؟