بقلم أحمد عدنان

لا يصح الحديث عن سنة لبنان، من دون الافتتاح بالمخاطر التي تواجه السنة عربيا وإسلاميا، ومنها: انهيار الدولة العربية، الإرهاب الإسلاموي بشقيه المنتسبين زورا إلى السنة وإلى الشيعة، والصراع العربي - الإسرائيلي بخياريه الأزليين: الحرب والسلام، وأخيرا انتقال عدوى سلوك الخصوم إلى السنة: العنصرية الإسرائيلية والطائفية الإيرانية.
 
يخشى سنة لبنان من عقد مؤتمر تأسيسي يجهز على استقرار الطائف، بينما عليهم الخشية من انهيار لبنان لا من انهيار اتفاق الطائف، فالفريق المصنف عربيا ودوليا في لائحة الإرهاب والمطلوب للمحكمة الدولية ولغيرها، ميليشيا حزب الله ومن والاها، الذي عطل الدولة وتسبب بالعقوبات الاقتصادية على النظام المصرفي اللبناني، والذي كرس صناعة الميليشيات وحضورها من لبنان وسورية والعراق إلى البحرين واليمن، وانخرط في تحالف الأقليات، لن يسانده أحد في تحقيق مكاسب سياسية بمؤتمر تأسيسي، لأن ذلك تشجيع على الإرهاب والخروج على الدولة داخل لبنان وخارجه، وما الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي - في هذا التوقيت - إلا للتهويل، وأي خصم يريد البحث في اتفاق الطائف عليه إدراك أن السنة يطالبون بتصحيح الالتباسات التي تشوش عمل رئيس الحكومة ويطالبون بتوسيع صلاحياته.
يشهد العالم العربي تدميرا ممنهجا للدول العربية، والتسوية الرئاسية العونية كان هدفها تجنيب لبنان هذا المصير، لكن أداء الدولة بعدها أسوأ من عهد الفراغ، وكأن لبنان يسير على خطى جيرانه، ولن أتطرق إلى جرائم حزب الله في دول الخليج واليمن، بل سأركز على دوره السوري الذي سيقود حتما إلى حرب طائفية في البقاع والجنوب، فالشعب السوري يتعطش إلى الثأر والقصاص من لبنانيين موالين لإيران.
في تاريخ العرب والمسلمين، علاقة السنة بالدولة هي علاقة السمك بالبحر، وانهيار الدولة يساوي جفاف البحر. وهذه الدولة مهددة بالإرهاب الإسلاموي الذي ترعى إيران أذرعه الطائفية المتناقضة، فعلاقة الجمهورية الإسلاموية بميليشيا الحزب الإلهي وبالحشد الشعبي معروفة، لكن المتغاضى عنه، أن إيران ثم حزبها وحشدها وحرسها الثوري، عبرهم أصالة أو عبر قطر وكالة، آووا ودربوا ووجهوا عناصر قاعدية وداعشية، ولم تحصل أي مواجهة مباشرة بين داعش وإيران في سورية، فهدفهم جميعا واحد: السنة والدولة.
ومن جهة أخرى، أغلب التحولات الكبرى في منطقتنا مرتبطة بشكل أو بآخر بالصراع العربي - الإسرائيلي، فنكسة 1967 أعلنت سقوط المشروع القومي ومهدت صعود المشروع الإسلاموي وأضعفت - مع توالي جرائم إسرائيل - هيبة الدولة العربية، وإعلان إسرائيل مشروع الدولة اليهودية شرع عند الإرهابيين مشروع الدولة الإسلاموية، وغير حاكم عربي استبد بشعبه بذريعة حرب وهمية على إسرائيل، والخلاصة من كل ما سبق إن إيران (والإرهاب بكل طوائفه) وإسرائيل في تحالف موضوعي ضد العرب والسنة.
إننا نضع إيران وإسرائيل في درجة واحدة، مع التشديد على تجاوز الخطر والإرهاب الإيراني للخطر والإرهاب الإسرائيلي، وهذه مذمة لإيران لا إشادة بالصهاينة، فإسرائيل تحتل أراضي 1967 والجولان بينما تحتل إيران ست دول عربية بشكل كامل أو جزئي، وفي النهاية إسرائيل هي إسرائيل، لكن إيران هي الجمهورية الإسلامية، ما يجعل قبولها داخليا أكبر رغم عجمتها وشيعيتها، ومن هذا المنطق أرتاب من الحضور التركي الإسلاموي الطامح في المنطقة، ولا أستبعد خطورته إستراتيجيا، فتركيا الأعجمية لها وجه سني، مما يجعل قبولها يتجاوز القبول الإيراني، وذكرت هنا تركيا وخيانة قطر للتأكيد على أن الحرب التي يخوضها السنة والعرب - من طرفهم - ليست طائفية أو مذهبية، وفي أي منطقة لا يدوم بقاء الغرباء مهما طال، لكن التشوهات التي يخلقونها خطيرة وتستحق المواجهة الحاسمة والمبكرة.
نجحت إيران في تشريع قبول إسرائيل في المنطقة، وإذا كان بعض الحكام العرب قد صرحوا بأن طريق القدس يمر من جونية والكويت، وإيران ومن والاها جعلوا طريق القدس يمر من السنة والعرب أو من الزبداني والقصير وحلب والموصل وصنعاء والمنامة وربما سول (عاصمة كوريا الجنوبية)، لا بأس من تنظير مواز بأن طريق القدس يمر من طهران وصعدة وقصر المهاجرين في الشام، وإنها لمفارقة أن تتخلى إسرائيل عن سياساتها التوسعية بالجدار الفاصل، وتتبنى طهران تلك السياسة في دنيا العرب بنفس الطريقة الإجرامية وبنفس العقلية الصهيونية، لذلك من الطبيعي أن تكون هناك مبادرة عربية للسلام مقابل صراع مفتوح مع إيران في طول العالمين العربي والإسلامي وعرضهما، والسلام ليس استسلاما كما يتصور البعض، لكنه معركة من نوع آخر أصعب وأعم ألف مرة من الحروب.
على السنة في لبنان وغيره، أن لا ينسوا انتماءهم إلى أمة لا إلى طائفة، والاعتزاز بالانتماء السني الأممي الواسع، يضم في أحشائه هوية الدولة الوطنية كما يضم التنوع العرقي والمذهبي والطائفي والثقافي لمختلف مكونات الاجتماعين العربي والإسلامي، فليست عندنا عنصرية إسرائيل ولا طائفية إيران ولا فوقية الترك ولا فاشية الإرهاب ودمويته، ونستدل على ذلك بتسمية الدروز «فرسان السنة»، وتسمية الأرثوذكس «سنة المسيحيين»، وفي مقابل ذلك تقوم إيران - فضلا عن حربها على السنة والعرب - بتصفية حسابات عقائدية مع الطوائف التي انشقت تواليا أو توازيا عن الشيعة (العلويون والزيدية والدروز) واستلحاقها دينيا بولاية الفقيه بعد الاستلحاق السياسي، بينما عاشت هذه الطوائف المسلمة - وغيرها من الطوائف غير الإسلامية - في كنف السنة العرب من دون محاولة رسمية أو ممنهجة لتغيير دينهم وعقائدهم.
الإشادة هنا واجبة بالسعودية التي دعت إلى الحوار بين الطوائف ثم الأديان، والإمارات التي تخوض مشروعا ضخما لنشر التسامح ومحاربة ثقافة الكراهية، والمغرب التي حظرت ممارسة السياسة على أي شخص أو هيئة بصفة دينية، وتونس التي تحول تجديد الخطاب الديني إلى قوانين، وأثمن مبادرة مشيخة الأزهر التي أطلقت وثيقتها التاريخية لنبذ العنف عام 2013 ومنها: «حق الإنسان في حياة كريمة. التأكيد على حرمة الدماء والممتلكات الوطنية العامة والخاصة. التأكيد على واجبِ الدولة ومؤسساتها الأمنية في حماية أمن المواطنين وسلامتهم وصيانة حقوقهم وحرياتهم في ظل احترام القانون وحقوق الإنسان. نبذ العنف بكل صوره وأشكاله وإدانة التحريض عليه. الالتزام بالوسائل السياسية في العمل الوطني العام. الالتزام بالحوار الجاد بين مكونات الجماعة الوطنية. حماية النسيج الوطني الواحد من الفتن الطائفية والدعوات العنصرية والميليشيات المسلحة».
ومن الأزهر إلى مفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده (1849- 1905)، الذي أظهر أصول الإسلام في كتابه (الإسلام دين العلم والمدنية) المتاح في المكتبات السعودية والعربية: «النظرة العقلية في تحصيل الإيمان، تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. البعد عن التكفير ومودة المخالفين في العقيدة. قلب المؤسسة الدينية والإتيان عليها من أساسها. الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة. حماية الدعوة، والاعتبار بسنن الله في خلقه وتجارب الأمم الأخرى».
هذه الأصول تؤكد القطيعة بين الإسلام والإسلام السياسي الأب العضوي - مع التراث المتجمد - للإرهاب والتطرف، فالإسلام السياسي، عند السنة بالذات، لا يناقض الفكر السياسي بل يناقض الإسلام، وما تشكلت الهوية السنية إلا رفضا للإسلاموية، وفضل السنة - تاريخيا - حكم ملك جائر أو خليفة بصلاحيات مطلقة على الدولة الدينية، والسبب أن وعي المسلمين والعرب في تلك المرحلة لم يصل بعد إلى الدولة المدنية والدستور. وللأمانة، فإن سنة لبنان أكثر من قدم نموذجا سنيا متقدما ومتحضرا ومعتدلا، وهذا أهم ما يجب الحفاظ عليه، وهنا تبرز - كمثال - قيمة وقامة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتيار المستقبل وما يشبهه.
لمواجهة إيران والإرهاب، ولاقتحام الصراع العربي - الإسرائيلي سلما أو حربا، لا نحتاج فقط إلى جهوزية أمنية وإجراءات عسكرية ثم مواجهة فكرية وثقافية لأسس التطرف، بل نحن بحاجة فوق ما سبق إلى مشروع سياسي عربي جامع وشامل مع مبادرة السلام العربية، وليس هناك غير السعودية للقيام بهذا الدور بحكم مكانتها السياسية والاقتصادية والدينية، فتكون رؤية 2030 في الداخل والمشروع العربي في الخارج، متكاملين متلاحمين، وإنني أتفاءل برمزية الجسر الذي يصل بين مصر والمملكة في هذا السياق، وأتفاءل بالدلالات الرمزية لعملية «عاصفة الحزم». المهم، أن يكون مشروعنا الجامع قائما على قطيعة جذرية مع فكر الإرهاب متبنيا - على سبيل المثال - الدولة المدنية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان وتمكين المرأة وتجديد الدين الإسلامي الحنيف.
المقدمة الطويلة السابقة واجبة للحديث عن سنة لبنان ومعهم، حاولت غير دولة عربية وخليجية عقد مصالحة سنية في لبنان وباءت المحاولات - قبل بدايتها - بالفشل، فبعض السنة حاول الحصول على وكالات مناطقية لا يتمكنون من جنيها بالانتخابات، وبعضهم جاء من باب المصلحة، وبعضهم جاء بوجه واحد وترك وجهه الآخر لحزب الله وسورية الأسد، وبعض الدول سمعت كلاما لا معنى له: «نحبكم لكننا نخاف من الآخرين ولا نستطيع أن نعلن صراحة أننا في صفكم» أو «نسير بالمصالحة شريطة ربطها بالانتخابات وزيادة حصصنا»، وبعضهم اشترط شمول المصالحة لمرتزقة ومهربين وعملاء صريحين لا يصلحون كحلفاء أو خصوم، فمكانهم الطبيعي هو السجن، ولا بأس بالرد على هؤلاء وتنبيههم: لا يضيف لأي دولة أن تتحالف مع مرتعش أو خائف أو ضعيف أو طالب مصلحة أو صاحب وجوه متعددة، وأمثال هؤلاء مغرم لا مغنم، والأفضل أن يكونوا مع إيران لا مع العرب، ومن أعمته المصلحة الخاصة عن المذابح التي تمزق السنة والعرب ودولهم فلا فرق بينه وبين العدو.
وللأمانة، ثمة أطراف مخلصة وشريفة وصادقة سارت - بحماس - في المصالحة، لكن العوائق الشخصية عند بعضهم أو عند حلفاء العرب منعت التقدم للأمام، ويبدو أن الأفضل تحريك المصالحة بعد الانتخابات رغم القانون الانتخابي البشع الذي أعده الخطر الأكبر والعدو الأول لسنة لبنان، لتقوم المصالحة على أسس سياسية ووطنية لا انتخابية، وأهم هذه الأسس: التسليم بأولوية الزعامة السنية الأكثر شعبية - أيا تكن - مع احترام الخصوصيات المناطقية ذات الشرعية الانتخابية. احترام مقام رئيس الحكومة العامل صاحب الشعبية الأكبر أو من يقود التوافق عليه صاحب الشعبية الأكبر. تجديد تبني المبادرة العربية للسلام التي أقرها لبنان الرسمي عام 2002. التأكيد على حق الشعب السوري في الحياة من دون إرهاب ومن دون استبداد ومن دون وصاية أجنبية. التمسك بالقرارات الدولية والعربية الخاصة بلبنان وعلى رأسها التنفيذ الكامل للقرارين 1559 و1701 وضرورة توسيع الأخير. التأكيد على هوية لبنان العربية. رفض توطين اللاجئين. الالتزام بالمحكمة الدولية. صون الدولة اللبنانية من الإرهاب ومن الفساد ومن إيران وعدم تحميل لبنان منفردا تبعات الصراع العربي- الإسرائيلي. التمسك بلبنان وطنا نهائيا وباتفاق الطائف وتنفيذه كاملا. وفي كل الأحوال لا مكان لسلاح إيراني أو فلسطيني أو أصولي، فالسلاح في يد الدولة التي تحتكر - وحدها - قراري السلم والحرب.
ليت الرئيس سعد الحريري يخوض معركة إنقاذية لإلغاء قانون الانتخابات المريع إنقاذا للسنة وإنقاذا للبنان، ولنتذكر شعار «لا نسبية مع السلاح»، ولنرفض تقنين «تحالف الأقليات» وتهشيم وتهميش وتزوير إرادة الناخبين.
تمر بنا هذه الأيام ذكرى انتهاء حرب تموز 2006، وأستثمرها لتحية مثال سني مشرف في لبنان هو دولة الرئيس فؤاد السنيورة، انتهى التحالف السيادي (قوى 14 آذار) وظل الرئيس السنيورة سياديا لبنانيا سنيا عربيا، حارب الإرهاب يوم اجتث تنظيم (فتح الإسلام) معززا الدولة والاعتدال، وفي عهده الميمون قامت المحكمة الدولية، وقاد مفاوضات حرب تموز كرئيس حكومة لكل اللبنانيين، وصمد كالجبال في وجه حصار إيران للحكومة وازداد بأسا يوم احتلت إيران بيروت وروعت الجبل في 7 أيار، فلم يفرط في هيبة رئيس الحكومة أو صلاحياته ولم ترعبه الميليشيا، ولم يقبل أي تشريع أو مهادنة أو مساكنة مع السلاح غير الشرعي، ودائما احترم الدستور وحماه، ولما غاب الرئيس سعد الحريري عن لبنان صان الأمانة وحفظ وحدة الصفين السني والوطني، تبلى عليه حلفاء إيران والأسد بتهم الفساد فخرج منها جميعا مرفوع الرأس وازدادوا هم انحطاطا، ويكفي السنيورة شرفا ورفعة أنه - بموقف أو بتصريح - يهز عروش الممانعة من الضاحية إلى طهران مرورا بدمشق، وليس أدل على صلابته ووطنيته سوى بغضهم له، وحين جاءت التسوية الرئاسية عارضها علنا وبشرف مذكرا بموقف العميد ريمون إده من اتفاق القاهرة الكارثي الذي عد سببا رئيسا للحرب الأهلية بسبب تشريع الميليشيات الفلسطينية، وما أشبه الليلة بالبارحة مع قانون انتخابي مأساوي وميليشيا متوحشة ومتغولة وإرهابية وعميلة لإيران، فيا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف.