عدنان حسين

 لم يتبقَّ سوى ثلاثة أسابيع على الموعد المحدّد للاستفتاء في إقليم كردستان العراق بشأن الحق في تقرير المصير (الاستقلال)، وما لم يحصل طارئ فإن عملية الاستفتاء جارية في موعدها، 25 الشهر الحالي... لكن ماذا عن استحقاق اليوم التالي؟

حتى الآن يبدو أي طارئ يدفع لتأجيل الاستفتاء احتمالاً ضعيفاً للغاية، فإدارة الإقليم وضعت للتأجيل شرطاً من النوع السهل الممتنع: تحديد موعد جديد والتوقيع على اتفاق بهذا الخصوص مع الحكومة الاتحادية في بغداد، مدعوماً بضمانة دولية من الأمم المتحدة أو بعض القوى العظمى. هذا الشرط لا يستطيع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تقديمه، فحتى لو كان راغباً فيه لا يُمكنه الإقدام على مجازفة قبل ثمانية أشهر فقط من موعد الانتخابات البرلمانية. هي مجازفة، لأن الأمر سيعني صِداماً مؤكداً مع «الأخوة الأعداء، وأولهم زعيم حزبه وكتلته البرلمانية، نوري المالكي، الذي سيُسعده اتخاذ العبادي قراراً كهذا، كيما يرفع من وتيرة تأليبه ضد العبادي، ولا بدّ أنه سيسعى لسحب الثقة من العبادي وإطاحة حكومته.
وإذ ليس مرجّحاً أن تُلزم بغداد نفسها بموعد للاستفتاء، فمن غير المنتظر بالتالي حصول الضمانة الدولية. عليه فالإقليم ذاهب إلى الاستفتاء، وبغداد غير قادرة على منعه أو تأجيله بالقوة، وما من عاقل سيفكّر باستخدام القوة على غرار ما فعلته الأنظمة العراقية السابقة في سعيها لإنهاء الثورة الكردية، وفشلت فيه فشلاً ذريعاً، أو حتى مجرد التهديد باستخدام القوة كما فعل سلف العبادي، المالكي، عندما أرسل في عام 2012 قوات حكومية إلى حدود الإقليم في عرض للقوة كان فاشلاً هو الآخر.
إيران وتركيا المعترضتان على الاستفتاء ليس في مقدورهما فعل شيء، فأي منهما لم تهدّد باستخدام القوة لمنع الاستفتاء، وهما غير قادرتين على التهديد لأنهما غير قادرتين على تنفيذ التهديد، ذلك أن أي أعمال عسكرية واسعة النطاق داخل الإقليم، إيرانية أو تركية، ستُجابَه على الأرجح بردّ يتعدّى الاحتجاج والاستنكار من الولايات المتحدة وسواها من الدول التي رعت «الاستقلال» الكردستاني عن بغداد في عهد نظام صدام.
بغداد وحدها قادرة على تأجيل الاستفتاء. كان بوسعها فعل ذلك عندما زار وفد من القوى السياسية الكردستانية العاصمة العراقية منذ أسبوعين، وأجرى مباحثات استغرقت أياماً مع حكومة العبادي والقوى السياسية الحاكمة وغير الحاكمة. لو كانت المباحثات، خصوصاً مع الحكومة وقواها المتنفّذة، مكرّسة لقضية الاستفتاء، ولو اتّفق الطرفان على العودة إلى أصل المشكلة وعلاجها من الأساس، لكان يُمكن حمل الطرف الكردستاني على التأجيل، بيد أن المباحثات انصرفت إلى القضايا الأخرى العالقة بين بغداد وأربيل.
الأصل في المشكلة التي دفعت نحو خيار الاستفتاء، أن بغداد لم تفِ بالتزاماتها الدستورية. هذا ما تستند إليه القيادة الكردستانية في تبريرها لمشروع الاستفتاء. وهذه القضية المحقّة لا تقتصر على العلاقة مع الإقليم، فعدم الوفاء بالالتزامات الدستورية كان العرب والتركمان وسائر المكوّنات والمناطق العراقية خارج الإقليم ضحايا له كما الإقليم وسكانه.
دستور 2005 كُتب على عجل لإعطاء شرعية للنظام الجديد القائم على أنقاض نظام صدام. لم يكن دستوراً مكتملاً، ولهذا ضمّنه مشرّعوه مادة تُلزم بتعديله واستكمال نواقصه لاحقاً، بل نصّ الدستور على توقيتات محدّدة لتحقيق هذه المهمة. كان يتعيّن الانتهاء منها في عام 2007، لكنّ هذا لم يتحقق إلى اليوم.
ليست الخلافات بين القوى السياسية، وبخاصة الشيعية والسنّية، السبب الوحيد لعدم تعديل الدستور. القوى التي تولّت السلطة (شيعية وسنّية وكردية) أوجدت نظاماً لتقاسم النفوذ زعمت بأنه سيكون مؤقتاً لدورة برلمانية واحدة (أربع سنوات)، هو نظام المحاصصة... هذه القوى وجدت في النظام المطبّق حتى اليوم، ضماناً لاحتكارها السلطة والاحتفاظ بالنفوذ والحصول على المال، بخلاف الدستور الذي لو عُدِّل لأسّس لنظام ديمقراطي يجري فيه تداول السلطة، بمعنى أن أحداً لن يتأبّد فيها ويحتكرها.
وُضِع الدستور جانباً في الغالب، ولم تُعدّل مواده مستحقة التعديل ولم تُنفّذ مواد أخرى كان يتعيّن تنفيذها، ولو حصل ذلك ما كنّا سنصل الآن إلى مرحلة ذهاب إقليم كردستان إلى خيار تقرير المصير. تنفيذ المادة 140 كان كفيلاً بحلّ مشكلة كركوك والمناطق الأخرى المختلف عليها، وتنفيذ المادة 48 كان سيكفل إنشاء مجلس الاتحاد، الهيئة التشريعية الثانية إلى جانب مجلس النواب الاتحادي، وتطبيق المادة 102 كان سينشئ هيئةً لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات ومشاركتها في إدارة الدولة، وكذا الحال بالنسبة للمادة 112 الخاصة بتشريع قانون لإدارة ثروة النفط والغاز وتوزيعها بإنصاف على سكان البلاد، وغير ذلك من مواد كثيرة أُهمِل تنفيذها بحجة عدم حصول التوافق بشأنها.
ليس الملوم في هذا الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية التي احتفظت دائماً بالأغلبية في البرلمان وسائر هيئات السلطة. الأحزاب الكردستانية أيضاً تتحمّل مسؤولية كبيرة، فهي رضيت باستمرار نظام المحاصصة وقنعت بالمناصب والمغانم التي أتاحها لها، ولم تضغط للوفاء باستحقاق التعديلات الدستورية. كان يُمكنها، مثلاً، تشكيل تحالف معارض قوي مع قوى سياسية داخل البرلمان وخارجه.
على أية حال الاستفتاء الكردستاني حاصل في توقيته على الأرجح رغم الاعتراضات العراقية والإيرانية والتركية التي لن يكون لها مفعول على الأرض، مثلما لم يكن هناك مفعول لاعتراضات أقوى من بغداد وطهران وأنقرة ودمشق على أول انتخابات برلمانية وتشكيل أول حكومة في الإقليم في عام 1992.
الاستفتاء سيحصل وسيصبح أمراً واقعاً بتصويت الأغلبية العظمى لصالحه، لكنّ: ماذا بعده؟ وكيف ستتعامل القيادة الكردستانية مع استحقاق ما بعد الاستفتاء، الاستقلال؟... أغلب الظنّ أن هذه القيادة ستواجه وضعاً مُحرجاً على هذا الصعيد، فالاستقلال ليس بسهولة الاستفتاء، نسبةً إلى ظروفه غير المؤاتية محلياً وإقليمياً.