غسان الإمام

 من هي هذه الطيور المغردة خارج السرب؟ هي، في غالبيتها، طيور السياسة: نسور. صقور. غربان. عصافير. بلابل. بوم. حمائم. شواهين... إذا راقبتها وجدتها تطير. تحلق. تنقض مفترسة. تنهار. فتهوي منفردة. فيكون لتحليقها انبهار يصل أحياناً إلى الإعجاب والتعلق بها. وأحياناً يكون الانبهار من نوع السخط. والغضب عليها. والنأي عنها.

السياسة علم لكن السياسات فضاء مزدحم. يتوسع. يتمدد أمامنا نحو المجهول. إذا تابعت ليالي السياسات، لرأيتها حبلى بالمفاجآت السارة والمفجعة، تماماً كما إذا راقبت ليل الفضاء البهيم، لرأيت الانفجارات والصدامات النارية بين النجوم، مجرد إشارات ساطعة. متوهجة، لبعدها عنا عشرات ومئات السنين الضوئية.
أبدأ بصقر لم تسمع الأجيال العربية الجديدة به وبمسيرته. تخرج الشاب عزيز المصري الآتي من القفقاس، من كلية الآستانة (إسطنبول) الحربية، على أيدي ضباطها الألمان. أَغْرَتْهُ السياسة، فانتسب إلى جمعية «الاتحاد والترقي». وشارك زملاءه الضباط الأتراك فيها بقلب السلطان عبد الحميد.
ثم غرد عزيز المصري خارج السرب، متحدياً مخطط «الاتحاديين» لتتريك العرب. أسس مع سليم الجزائري «الجمعية القحطانية». قاتل مع العرب الطليان في ليبيا. والأتراك في اليمن. والصرب في البلقان. ضاق به «الاتحاديون». فحكموا عليه بالإعدام. ثم نفاه صديقه مصطفى كمال (أتاتورك) إلى مصر. لم يهدأ النسر المستعرب. اتصل بالشريف حسين. ثار على الإنجليز الذين نكثوا بوعودهم له. فاختاره الملك فاروق قائداً للجيش المصري.
حارب الفريق عزيز المصري على كل الجبهات. اتصل بالقوات الألمانية التي اقتربت من مصر في الحرب العالمية الثانية. فأجبر الإنجليز الملك المصري الشاب على إقالته. فانتصر له جمال عبد الناصر وضباطه الأحرار. جاءوه مستلهمين نصيحته. فأوصاهم باعتزال «الإخوان المسلمين». ونصحهم بالإيمان بالعروبة.
خرج عبد الناصر من سرب السياسة التقليدية. كشف ألاعيب الإنجليز بين المصريين والسودانيين. منح الأشقاء الجنوبيين حق تقرير المصير. تحقق الاستقلال وجلاء الإنجليز عن مصر. كافأ عبد الناصر ملهمه ومستشاره الفريق عزيز المصري. فأرسله سفيراً إلى موسكو. اكتملت فرحة المصري بتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا. فجاء الانفصال ليضرب الأمل.
أوغل عزيز المصري في العمر. فمات وحيداً مغموماً عام 1965، عن عمر 85 عاماً. خرج شعب مصر لوداعه في احتفال عسكري مهيب أقامه له عبد الناصر. فقد آن للطائر المغرد خارج السرب أن يستريح.
أنتقل بالأجيال العربية الجديدة إلى سماء سوريا. لعل القراء ضاقوا بي. فقد كتبت كثيراً في هذه الجريدة، للتعريف بالمثقف الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وما زلت مصراً على تذكير السوريين الذين تخلت «معارضاتهم» عن العروبة، بهذا الطبيب الذي غرد خارج السرب. فقاد أكبر ثورة سورية على الانتداب الأجنبي. وظل ممتنعاً سنتين مع الثوار (1925/ 1927) في غابات دمشق (الغوطة).
فر الشهبندر إلى مصر ملاحقاً بحكم إعدام. فدعا المثقفين المصريين إلى الإيمان بعروبة مصر. فعل ذلك قبل جمال عبد الناصر بـ25 عاماً. عاد الشهبندر إلى سوريا (1938) ليقوّض معاهدة «الاستقلال المنقوص»، فوق رؤوس زعماء «الكتلة الوطنية» الذين عقدوها. لو ظل الشهبندر حياً ربما لما انتهت سوريا في حضن الطائفة العلوية. كان الشهبندر ضحية المرجعية الدينية المتزمتة المتحالفة مع حكومة فيشي الفاشية (1940).
وخرج أنطون سعادة من «ضهور الشوير» قريته الآرامية الجميلة الغافية في حضن جبل لبنان، ليغرد خارج السرب. نادى سعادة بتجريد الشام والعراق من عروبتهما! وتبنى عنصرية هتلر الفاشية (القومية الاشتراكية)، فمات بحكم إعدام مستعجل في لبنان. وانتقم له حزبه بسلسلة اغتيالات ومحاولات انقلاب في سوريا ولبنان. وكان من بين ضحاياه الشهيد رياض الصلح الزعيم التاريخي لعروبة لبنان واستقلاله.
أنشأ مثقفو الجيل الثاني من القوميين العرب «حزب البعث» بالحوار الحر بين الأساتذة والطلبة. فخطفت الحزب الطائفية البغيضة في سوريا. والعشيرية المتخلفة في العراق. غرد صدام خارج السرب. فمات مليون عراقي في حروبه المشؤومة ضد العرب. والأكراد. والفرس. لم يعرف الغراب كيف يصون الاستقلال. وكيف يحمي الجدار الشرقي للعالم العربي. فأخرجه بوش الأصغر من الحفرة التي اختبأ فيها، ليسلم العراق إلى أعوان إيران.
صبر فيصل الأول. تمهل فصالح العراقيين مع العراقيين. خرج نجله الملك غازي من السرب. فسارع إلى العرب بالنداء القومي، من إذاعته في قصره. فمات تحت دواليب سيارته الإنجليزية (1939). وحلق آل الصدر حائرين بين الدين والسياسة. وبين النجف وقم. فنكبهم صدام حسين. نجا مقتدى الصدر. فحلق خارج السرب. دعوتُ العرب في هذه الجريدة باكراً إلى استضافة الصدر. زار مقتدى الصدر أخيراً السعودية. ويتأهب لزيارة مصر. لعله اختار العودة إلى السرب الحقيقي.
الحكمة في السياسة أن تعرف متى تكر. ومتى تفر. متى تقدم. ومتى تعتزل. غرد الحبيب بورقيبة داخل السرب. ناضل. فحكم. قدم المتوسطية على العروبة. والفرانكوفونية على الهوية. والفردية على الديمقراطية. والأنثى على الذكور. وساوى بين حق إسرائيل وحقوق الفلسطينيين.
أوغل بورقيبة في العمر. فما عرف متى يعتزل. عجم الحبيب عيدان الأحباب. فأبعد أكثرهم حكمة واتزاناً. وقرّب أشدهم وطأة على الناس. عندما خرج السرب ضده، انقض زين الأمن على الحبيب. فألزمه القصر حمايةً وتأديباً له. وألزم الملايين بيت الطاعة، إلى أن احترق الولاء باحتراق البوعزيزي. حكم «مرشد النهضة»، فثارت النساء على الرقباء. وحكم السبسي. تذكر الحبيب. فما الحب إلا للحبيب الأول... فتمرد العُذَّال مع الأحباء.
طار ترمب من المال إلى السياسة. ومن المقاولات والعقارات، إلى «البيت الأبيض». أثبت للعالم أن الطبقة الوسطى البيضاء والعاملة هي الأغلبية الفقيرة في أميركا الملونة ببشرٍ بألوان «التِكنيكَلَر». غلب ترمب هيلاري ساكنة صناديق «وول ستريت». عليه أن يغالب الصبي المراهق الكوري. إن ألقى كيم جونغ أون علبة كبريت نووية على سواحل كاليفورنيا، اختفت كوريا الشمالية من خرائط الجغرافيا البشرية. فماذا تفعل حليفتاها النوويتان روسيا والصين؟ هل تفجران العالم؟ أم تكتفيان بالتلاعب عبر الأثير بالانتخابات الأميركية، ضد رجل يحكم العالم، بالتغريد عبر «تويتر»؟!