محمد السعيدي

الحضارة الإسلامية كانت في قرونها الثلاثة الأولى فرصة نادرة في التاريخ الإنساني لإحداث نقلة نوعية في التقدم الحضاري لكن تبني السلطة للنهج الاعتزالي كان عبارة عن نقطة توقف خطيرة في حضارة البشر

عالَم الغيب وعالَم الشهادة هما القسمان المكونان لهذا الوجود بكل ما فيه ومن فيه، ما نراه وما لا نراه، وحول ماهية كلٍ منهما وسبلِ الوصول إلى معرفته تدور معظم إن لم نقل كل قضايا الفلسفة وخلافات الفلاسفة منذ اليونان وحتى يومنا، والخلاف فيها هو أصل الخلاف بين الأديان الإلهية وبين النِّحل التي وضعها البشر، وهو الخلاف أيضا بين دعاة المذاهب المنحرفة عن أصل وحقيقة الأديان الإلهية وبين دعاة المذاهب المنحرفة عن تلك الأديان، والخلاصة: أن الخلاف في التعرف على عالم الغيب والشهادة هو جوهر الخلافات الفلسفية والعقدية والفكرية منذ أن وُجِد الإنسان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولذلك جاء تأكيد القرآن الكريم مرات عديدة بأن الله تعالى هو وحده من لديه حقيقة العلم بهما (عالم الغيب والشهادة)، وبالتالي فرسالاته هي وحدها من تقدم للبشرية الحقيقة التي جاءت فِطرة الإنسان داعية إلى التفتيش عنها.
وعالَم الشهادة هو ما ندركه بحواسِّنا مباشرة أو عبر وسائط قد تطول وقد تقصر ولكنها تنتهي آخر الأمر إلى الحواس، وبالرغم من ذلك فإن ممن يُسَمَّون بالفلاسفة من أنكر وجودها ومنهم من دعا إلى الشك فيها حتى يُقِيم البراهين لنفسه على أنها موجودة، ومنهم من بلغ به جنون الفلسفة إلى أن أنكر وجود نفسه وجَعَل هِمَّته ودعوته لتفسير الحياة والسعادة فيها هي أن يُثبت لنفسه أنه موجود.
ومنهم من كان على النقيض من ذلك تماماً، فَقَصَر الوجود على هذه المحسوسات وأنكر ما وراءها، ووصل ببعضهم الأمر إلى تأليه الجنس الإنساني وعبادة توجهاته ورغباته، وكان هذا الخلاف الشاطح المناقض لنِتَاج الحركة التلقائية للعقل أحد ثمار اعتماد الإنسان على العقل وحده وجعله منطلقا وحَكَماً، وهي هستيريا تُثْبِتُ أن الإنسان في حاجة ماسة إلى النص الإلهي حتى في تحديد علاقته المعرفية بعالم الشهادة المحسوس.
فالقرآن سرد الكثير من مفردات عالم الشهادة، السماء، الأرض، الجبال، الكواكب، النجوم، الأنفس، ويصاحب ذلك دعوات قرآنية للتَّفَكُر فيها إما مباشرة كقوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)، أو عبر الإشادة بأولي العقول الراجحات كقوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)، وهي فيما يبدو لي دعوة أكثر تقدما من الدعوة إلى التفكير فيها، فالتفكير يشمل العملية الذهنية المنتهية بالحكم على الشيء بالحقيقة أو الإبطال، والصحة أو الفساد، بينما التَّفكر عملية ذهنية منطلقة من القطع بالوجود أو الصحة، فهذه المظاهر حقائق موجودة ومهمة الإنسان تقتصر على البحث في أسرار وجودها وماهياتها وتفاصيل تكوينها وحركتها ومنافعها ومضارها ومخاطرها، في دعوات قرآنية صريحة إلى العلم التجريبي المبني على قطعيات مسلمة.
وهذه الحقيقة التي قد يراها بعض القراء بدهية ولا تحتاج حتى لكتابة مقال عنها، ضلت عنها البشرية قروناً طويلة وظلت تتيه في فلسفات كانت هي السبب الأول والرئيس الذي تسبب في تأخر التقدم الإنساني في علوم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا، وما تفرع عنها من علوم، وما نتج عن ذلك من تقدم تقني في استثمار العلم.
وحين جاء النص القرآني في دعوته الحصرية بالاشتغال بعالم الشهادة كان في يد المسلمين الامتثال لذلك وإحداث تقدم غير مسبوق في استثمار الأرض وفيزياء الكون في التقدم الحضاري، فهم يملكون الدعوة الإلهية التي لم تكن ولن تكون بيد أرباب ملة أو نحلة غيرهم.
لكن تعثر المسلمين جاء نتيجة انحراف الهوى السياسي مبكرا عن منهج السلف رضي الله عنهم في التعامل مع النصوص، إلى المنهج البدعي، وذلك في عصر الخليفة المأمون «170-218» الذي هو أول خليفة يحارب منهج السلف في التعامل مع نصوص الوحيين، حيث تبنى منهج المعتزلة الذي كمنت خطورته وتركز أثره السلبي على الحضارة الإسلامية والإنسانية بشكل عام، حين صرف العقل عن التَّفكر في عالم الشهادة الذي هو المنطلق الحقيقي لحضارة البشر، إلى التفكير وليس التفكر في عالم الغيب.
فبدلاً من أن تنشغل الدولة في دعم علم الفلك والجغرافيا والميكانيكا والرياضيات، وضعت كل ثقلها في نفي صفات الله تعالى وإنكار عذاب القبر، واللوح المحفوظ والسراط المستقيم، ومناقشة أفعال الخلق هل هي من خَلْقِهم أم من خَلْقِ الله، إلى غير ذلك من القضايا الغيبية التي شغلت الدولة نفسها في تبنيها ونشرها وعقوبة من خالفها.
ونتج عن ذلك انشغال العلماء السائرين على منهج السلف بمحاربة هذه العقيدة المنحرفة ليحفظوا على الأمة دينها، ثم نشأ مذهب كلامي يريد التوسط بين عقيدة السلف وبين مذهب المعتزلة، وأعني عقيدة الكلابية ثم العقيدة الأشعرية، التي كانت عبارة عن صورة محسنة لمذهب الاعتزال، ولذلك لم تعط عالم الشهادة حقه من الاعتبار والتأمل، بل على العكس رسخت الانصراف إلى عالم الغيب وإهمال ما أمر الله به وهو التفكر في المشاهدات والمحسوسات.
وعالم الغيب هو العالم الذي يستحيل التعرف على تفاصيله بالحس، وجعل الله أعظم فضائل المتقين: الإيمان به فقال تعالى في أول سورة البقرة (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بِالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، والوسيلة الصحيحة والوحيدة هي الوقوف فيه عند المنصوص نفياً وإثباتا. والعجيب أن مذهب المعتزلة ومن بعده المذهب الأشعري الذي ولد من رحمه، بالرغم من رفعه لواء العقل إلا أن جميع المذاهب الخرافية التي نشأت في الإسلام استظلت بهما، فالخرافيون من منتحلي التشيع ومنتحلي التصوف كلهم معتزلة أو أشاعرة، والسر الذي يظهر لي وراء ذلك: أن الخرافة الدينية هي عبارة عن تدخل بشري في عالم الغيب، وهذه المذاهب التي تجتمع تحت وصف علم الكلام هي التي تشرع للعقل الولوج في عالم الغيب، وبالتالي يمكن من خلالها انتحال الخرافة والدفاع عن عقلانيتها أي زعم أن العقل يقرها ومن ثَمَّ نسبتها للشرع. لذلك نجد الخرافيين رغم مجافاة دعاواهم لمقتضيات العقول يتهمون المنهج السلفي بعدم العقلانية، ويتشبثون بالاعتزال والتشعر مع منادتهما بإعمال العقل.
المهم: أن الحضارة الإسلامية كانت في قرونها الثلاثة الأولى فرصة نادرة في التاريخ الإنساني لإحداث نقلة نوعية في التقدم الحضاري، لكن تبني السلطة للنهج الاعتزالي كان عبارة عن نقطة توقف خطيرة وطويلة في حضارة البشر، لم تتجاوزها البشرية إلا في مطالع النهضة الحديثة وفي أوروبا وليس في بغداد، ولأسباب عديدة منها استعمال المنهج التجريبي في البحث العلمي، وهو المنهج الذي أشارت إليه كثير من آيات القرآن وساهم علماء الكلام في إهماله.