عدنان أحمد يوسف

عندما يتحدث مزيد من الخبراء والأكاديميين الغربيين عن تعاظم أهمية التمويل الإسلامي لأن مبادئه هي إنسانية وراقية، فلأنهم بذلك باتوا يقتربون أكثر فأكثر من الحقائق التي ارتكزنا عليها منذ البدء في تحديد هوية التمويل الإسلامي وملامحه ودوره. وهذه الشهادات تؤكد في الوقت ذاته إن التمويل الإسلامي استطاع لحد كبير أن يعبر عن هويته بصدق وأن يوصل رسالته العالمية.

أكد الباحث الأميركي المتخصص بالاقتصاد في جامعة «ريدنغ» البريطانية ثيودور روزفلت مالوك، الذي ألف كتاباً بعنوان «الحكمة العملية في الادارة» يبحث في سمات 14 ديانة واتجاهاً فلسفياً. ويقول مالوك إننا عندما ننظر الى هذه التقاليد الدينية والفلسفات الإنسانية، سنرى توافقاً في تلك القضايا الرئيسية المنسجمة مع التمويل الإسلامي. كما تحدث عن نمو تدريجي يشهده العالم حالياً باتجاه الاستثمار بدافع من المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية، مشيراً إلى أن التمويل الإسلامي بات جزءاً من تلك الحركة الدولية الكبيرة، بخاصة أن هذا النوع من التمويل ينبثق كأحد الحوافز باتجاه الاستدامة، انسجاماً مع أهداف التنمية المستدامة التي أصدرتها الأمم المتحدة.

أعادني هذا الحديث إلى ورقة كنت تقدمت بها إلى المنتدى العالمي التاسع للتمويل الإسلامي الذي نظمه «البنك الإسلامي للتنمية» في جدة في حزيران (يونيو) 2014، والتي تناولت فيها خصوصاً العلاقة بين التمويل الإسلامي والتنمية. وبينت في هذه الورقة أن تعريف الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية لمفهوم التنمية تطور على مدى العقود الخمسة الماضية، وأوصل هذا التطوير المفهوم إلى محتوى مقارب إن لم نقل مطابق لتعريف التنمية في أفقها الإسلامي والإنساني. ففي مطلع الستينات، جرى تعريف التنمية الاقتصادية بأنها «العملية التي يتم بواسطتها، في بلد معين، تزايد مطرد في متوسط الدخل الحقيقي للفرد عبر فترة طويلة من الزمن. وهذا ما يسمى بالنمو الاقتصادي. إلا أن هذا المفهوم المبسط للتنمية أثبت فشله الذريع حينما بات الكثير من دول العالم يشهد نمواً اقتصادياً مضطرداً تزامن مــع زيادة الأغــنياء غنى والفــقراء فقراً. وبات من الواضح ان النمو الاقتصادي بحد ذاته لا يحقق التنمية بمفهومها الاجتماعي حينما لا تتزامن معه أي أهداف وآليات تطاول الشرائح الأوسع في المجتمع.

من هنا بدأت الأمم المتحدة منذ الثمانينات بوضع تعريفات جديدة للتنمية باعتبارها عملية حضارية مستدامة وحقاً من حقوق الإنسان، حيث تعتبر «التنمية الشاملة عملية مجتمعية واعية ودائمة (sustained) من أجل إيجاد تحولات هيكلية وإحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية تسمح بتحـــقيق تصاعد مطرد لقدرات المجتمع المعني وتحسين مســـتمر لنوعية الحياة فيه». وهكذا نلاحظ أيضاً أن مفهوم التنمية السليم التصق بتنمية الاقتصاد الحقيقي والإنسان نفسه من خلال تملكيه القدرات اللازمة للعمل والإنتاج.

وللأمانة وللتوثيق التاريخي نقول هنا أن في وقت كان مفهوماً التنمية والتمويل يتطوران عبر موج متلاطم من الأحداث والنظريات عبر العقود الخمسة الماضية، كان مؤسس مجموعة البركة المصرفية ورائد الحركة المصرفية الإسلامية المعاصرة الشيخ صالح عبد الله كامل الذي بدأ مسيرة الصيرفة الإسلامية في نهاية الستينات وقام بتأسيس أول مصرف إسلامي يتبع لمجموعة «البركة» المصرفية عام 1978، كان يضع اللبنات السليمة لمفهومي التنمية والتمويل اللذين توصل لهما العالم في ما بعد. فقامت فلسفة العمل المصرفي الإسلامي لديه على مفهوم «إعمار الأرض»، الذي يعني «إضافة قيمة ملموسة إلى الأصول». إن لهذا المفهوم صلة مباشرة بتطوير المجتمع وتقدمه الاجتماعي والاقتصادي، ويتم تطبيقه على صعيد التمويل الإسلامي من خلال وساطة استثمار نشطة تمثل تكملة لعمليات إنتاجية حقيقية ذات قيمة مضافة ومن خلال تبادل السلع والخدمات، وهو ما يمكن التمويل الإسلامي من تقديم بدائل عملية عن أولئك الوسطاء الماليين الذين لا يقدمون أي منفعة للمجتمع بشكل عام. وبذلك يجسد التمويل الإسلامي منذ سنوات طويلة التطبيقات السليمة لعلاقة التمويل بالتنمية الاقتصادية.

وخلال فترة ترؤسي فريق تمويل التنمية في مجموعة الأعمال B20 التابعة لـ «مجموعة العشرين» ، نجحنا في وضع التمويل الإسلامي على جدول أعمال قمة «مجموعة العشرين» التي عقدت العام الماضي في أنطاليا بتركيا. وتضمن البيان الختامي للقمة تأكيد على دور الصيرفة الإسلامية في تمويل الاستثمارات والنمو عالمياً. وقد تحقق هذا الإنجاز بعد جهود كبيرة بذلناها على أكثر من صعيد رسمي واقتصادي. ونواصل جهودنا حالياً لتعزيز هذا الانجاز المهم وتحقيق آليات لدعم التمويل الإسلامي على المستوى العالمي، وبما يحقق أوسع انتشار واعتراف لهذه الصناعة ويعزز دورها في تحقيق أهداف التنمية العالمية.

ان النموذج الفكري للمصرفية الإسلامية يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية في تجسيد علاقته مع التنمية الاقتصادية. الأول هو مقاصد الشريعة. وهي تعنى بضرورة الالتزام بالضوابط الكلية الحاكمة لمجالات التبادل الاقتصادي بحيث لا يكون النشاط موضوع العلاقة الاقتصادية محرماً في حد ذاته أو لا يحقق المصلحة العامة. والمرتكز الثاني هو الآليات، وتشمل كل الصيغ المباحة وتعمل كغطاء شرعي وقانوني لتكييف الهيكلة وتقنينها وعلاقة التبادل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. أما المرتكز الثالث فهو المآلات، وهي النتيجة المرتجاة من عملية التبادل الاقتصادي بحيث تكون نتيجة التمويل محققة لمصلحة الفرد والمجتمع.

إن كل هذه الإنجازات التي يحققها التمويل الإسلامي لا تعفينا من القول أخيراً إن المسيرة أمامه لا تزال طويلة، وهو لا يزال بحـــاجة لجــهود المؤمـــنين كافة بالمبادئ التي يرتكز عليها وفي الكثير من المجالات. كما نجدد دعوتنا في هذه المناسبة إلى كل الحكومات العربية والإسلامية بأن لا تتردد في تطوير تشريعاتها المالية والمصرفية لفتح مزيد من المجال لتوسع الصيرفة الإسلامية وانتشارها (المشاركات)، كما على المؤسسات الإسلامية المالية والمصرفية المتخصصة أن تواصل تطوير المعايير واللوائح التي تعزز المكانة العالمية للتمويل الإسلامي جنباً إلى جنب مع مواصلة تعاون المصارف المركزية مع البنوك الإســلامية في ابتكار الحلول والمنتجات التي تجــسد أكثر مــساهمة هذا التمويل في الرخاء والتنمية حول العالم.