طيب تيزيني

 ازدادت المضاربات على سوريا الوطن وعلى أهلها، فيتدخل الأغراب وغيرهم في تحديد هذا الوطن راهناً ومستقبلاً وفي تحديد مصائره التاريخية. إنه «القصعة»، التي يتقاتل عليها الروس والإيرانيون والأميركيون والأكراد وغيرهم ممن يحسبون الشعوب والأوطان سلعاً في أسواق النخاسة. لقد عشتم تجارب مريرة في تاريخكم القريب والبعيد جدير بكم ألا تنسوها وألا تتعاملوا معها بمثابة مسائل ذهبت مع الريح. لا تنسوا أنكم دفعتم الغالي والنفيس في سبيل طرد الفرنسيين المستعمرين من بلادكم!

وبالأساس، ليس من طبائع الشعوب أن ترمي تاريخها إلى وراء ظهورها، وحين يبدو أن الأمر حدث، أي حصل في أوقات سابقة قريبة وما يزال يحدث، حيث تقوم قوى عسكرية أجنبية بإدخال مجموعات بشرية غريبة إلى مناطق ومدن سورية بهدف توطينها -دونما حق- في حاراتها وبيوتها، بعد تهجير سكانها الأصليين إلى ما لا يرغبون فيه من «أوطان مزعومة». إن ذلك يمثل خرقاً للمنظومات الأخلاقية والإنسانية والقانونية، التي ترى في الأوطان مآلات للبشر وعناوين كرامة وأوطاناً وحضارة لهم. ومن هنا جاء تصنيف الشعوب مطابقاً لتلك العناوين وغيرها من التعبيرات، التي استخدمها البشر ليعبروا بها عن كرامتهم وقيمهم التي حققوها على مدى مراحلهم التاريخية المديدة.

وتعاظم الأمر إلى مدى أصبح الوطن هوية البشر وعنوان نموهم وحضارتهم ومنبع ذكرياتهم وآمالهم وآلامهم. ولذلك، اعتبرت عمليات التهجير القسري من الأوطان عملية إجرامية حسب كثير من الشرائع والقواعد القانونية الدولية والمحلية.

أما الشيء الملفت لاهتمام كل سوري، فهو أن تاريخ بلاده القريب، سوريا، وصل إلى ما وصل إليه من استقلال وطني عام 1945، حين أرغمت فرنسا الاستعمارية على الخروج من سوريا، فكانت بدايتها إذن حين استقلت، وأصبح قرارها السياسي والعسكري والاقتصادي الاجتماعي... إلخ، بأيدي أبنائها ورهن جهود شعبها. وجدير بالذكر أن زعماء سوريين في طليعة من وقف في وجه فرنسا ويداً بيد مع شعبهم السوري. وقد انتموا إلى طوائف متعددة ضمن الشعب السوري.

أما على الصعيد الشعبي العام، فحدث ولا حرج. لقد كان ثمة حدث لن أنساه طوال العمر، ذلك أن والدي الراحل كان يعمل في القضاء السوري- الحمصي، حين سمعت من أصدقاء لي في المدرسة، أن أب أحدهم توفي، وعلم أهله بعد ذلك أن هنالك وصيّاً قد وُظّف عليهم -وهم الصغار مع أب قد مات وأم عاجزة عن الإعالة. وفي البيت بعد عودتي إليه، علمتُ أن «الوصي» هو والدي! أما المسألة التي شغلتني في ذلك العمر المدرسي، فهي السؤال التالي: كيف يكون مسلم وصياً على عائلة مسيحية؟

إن محاولة زعزعة البنية الديموغرافية السورية لن تثمر، ولكنها يمكن أن تكلف الشعب السوري مزيداً من المرارة وتدمير بنية سوريا. ومن طرائف الموقف أن ثمة نشيداً معروفاً في سوريا ومنتشراً بكثافة، هو بعنوان: سوريا يا حبيبتي، أعدت لي كرامتي!

إن ما كنّا نراه مناسباً في الاعتبارين الوطني والعقلاني، إنما هو هو المحافظة على كرامة السوريين واحترامها، والبدء بحل سياسي عقلاني وطني. أما غير ذلك، فيمكن أن يكون ثمنه غالياً جداً، ومكلفاً بما لا يمكن حسبانه، في حالة كثر فيها أولئك الذين يطالبون بـ «أدوارهم وحصصهم» في اللعبة الخطيرة، فهذه إن قيدت أكثر فأكثر وحتى النهايات، التي يخطط لها في رؤوس أولئك، فسيتعين على سوريا الحبيبة أن تدفع أثمانها المفتوحة. ولنجعل ذلك مناسبة للاستجابة لضرورات إصلاح وطني يحقق العدالة والديموقراطية وكل ما يحافظ على الحبيبة سوريا بأيدي أهلها.