&محمد الفاتح عثمان، الناجي الوحيد من كارثة الطائرة السودانية التي تحطمت في يوليو 2003 وقتل ركابها الـ 115 هو البطل الوحيد الذي لا يعرف كيف نجا ولا يعرف كيف ماتت والدته في ذات الرحلة المشؤومة التي أقلعت من مطار بورتسودان في طريقها إلى العاصمة الخرطوم.. «الفاتح» الذي كان رضيعا في العام الأول من عمره يقرأ ويسمع مثل غيره عن حادثة الطائرة السودانية التي تحطمت في غير مكان بعيد عن ساحل البحر الأحمر ويوكل لغيره أن يتحدث عن الحادثة.. فكيف لرضيع أن يتكلم ؟!

سمع «محمد»، الذي عبر الآن سن الـ15 من عمره ويتأهب للدخول إلى الجامعة، من والده وأقاربه قصة الرحلة المشؤومة وهو في حضن والدته تلك الرحلة التي لم تصل إلى وجهتها؛ إذ اهتزت الطائرة بشدة في الجو قبل أن تسقط في صحراء المدينة الساحلية توفيت والدته أما هو فقد عثر عليه أحد عمال المطار تحت ظل شجرة وسط أشلاء الجثث.

انتبه «قولاي» أحد رجال «الهدندوة» السودانية إلى صوت بكاء وأنين وسط الجثث المتفحمة فحمل الرضيع إلى فرق الإنقاذ الذين ما كان لخيالهم أن يستوعب كيف يكتب النجاة لطفل في الثانية من طائرة هوت على الأرض من ارتفاع 33 ألف قدم. لكن الذي حدث بعد ذلك للطفل الفاتح يجسد أعظم قيم الإنسنة. ما إن سمع الشيخ زايد آل نهيان -رحمه الله- نبأ نجاة الطفل الناجي حتى أمر بنقله وعلاجه في أرقى المستشفيات البريطانية متكفلا بكل تكاليف تعافيه.. وها هو الفاتح يتأهب اليوم لدراسة علوم التقنية في إحدى الجامعات المصرية على نفقة رجل الأعمال المصري نجيب سايروس.. وعن هذا المحسن المصري يتحدث الناجي الوحيد بكل الاعتزاز؛ إذ ذابت الفوارق والمذاهب لصالح التسامح والتعايش. يقول أبو محمد إن الرجل أبى إلا أن يتحمل مسؤولية تعليم ابنه حتى تخرجه.

الحادثة وتفاصيلها المأساوية لن يرويها محمد الفاتح، لكن تداعياتها ونتائجها ودروسها ستظل تلوح له قربا وبعدا خصوصا بعد وصوله إلى السعودية معتمرا، ولعمرة محمد الفاتح قصة يرويها؛ إذ تلقى دعوة من الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة، وتكفلت به الهيئة حتى أكمل الشعيرة على كرسيه المتحرك قبل أن يعود إلى مستقره في القاهرة.. «عكاظ» التقت الطفل الناجي محمد الفاتح وسألته:

فوبيا الطيران

• يبدو أن تجربة النجاة من طائرة محطمة في الصحراء والخروج حيا من وسط اللهب والدخان صعبة وقاسية. هل تعاني من فوبيا الطيران ؟

•• العكس تماما.. استمتع جدا بالرحلات الجوية أنظر إلى الأرض من النافذة وأتأمل قدرة الله في خلقه المسافة شاسعة والفضاء واسع ويحفز الإنسان إلى التأمل. كيف نجوت هذه إرادة الله.

• خرجت من الحادثة بأقل الخسائر

•• نعم.. فقدت ساقي لكني ربحت الإرادة والعزيمة والتحدي.

• بورتسودان المدينة الساحلية التي شهدت الكارثة الجوية هل زرتها مجددا؟

•• نعم.. زرتها أكثر من مرة وأحبها جدا. فيها قبر والدتي.

• زرتها جوا أم برا ؟

•• جوا وبرا.. أؤكد لك لا أعاني من أي فوبيا طيران.

قمرة القيادة

• أصبحت من مشاهير الكوارث الجوية كيف يتعامل معك قبطان الطائرات خصوصا حين يعلمون قصة نجاتك؟

•• حدث كثيرا.. يستدعونني إلى قمرة القيادة ويلاطفونني وأعيش معهم تجربة القيادة والطيران.

• ربما كان لنجاتك دروس وعبر لك ولغيرك..

•• نعم.. كثيرون قالوا لي ذلك. أنجاني الله لحكمة وأرجو أن أعيش كل عمري في البر بأهلي وبوالدي شاكرا لكل من قدم لي العون والمساعدة.

• هل زرت السعودية من قبل؟

•• لا.. إنها المرة الأولى، سعدت جدا بالعمرة، زرت مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة. أشكر الأمير سلطان بن سلمان رئيس هيئة السياحة الذي حقق حلمي بأداء العمرة كما أشكره على تمنياته الطيبة لي وأشكر كل العاملين في هيئة السياحة الذين وقفوا على خدمتي. كانوا ودودين معي سهروا على راحتي. حتى المواطنون العاديون عندما كانوا يعلمون بقصتي كانوا يتسابقون لخدمتي، السعوديون مهذبون وكرماء عاملوني بلطف وسأزور المملكة كلما سنحت الفرصة.

الشيخ زايد أمر له بطائرة خاصة.. سلطان بن سلمان تكفل بعمرته.. وسايروس بدراسته

أبو الناجي: عربة أطعمة الطائرة.. روت عطش ولهب الرضيع

عن قصة نجاة محمد.. يتحدث الأب الفاتح لـ «عكاظ» مسترجعا تفاصيل تلك الليلة السوداء التي اختطفت نصف حياته، إذ توفيت أم محمد في الطائرة المحترقة.. «العثور على الطفل الرضيع حيا كان أشبه بخيالات السينما لكنها إرادة الله. بعد ساعات من تحطم الطائرة تحرك المنقذون وسط الأشلاء يجمعون الجثث، وكان بينهم رجل اسمه «قولاي» عامل في الطيران المدني تنبه إلى صوت أنين أسفل شجرة ووجد محمد.. أقسم لي قولاي أن الرضيع كان يرقد تحت العربة الصغيرة المتحركة التي يستخدمها المضيفون لتقديم الوجبات والماء للركاب.. العربة كانت مليئة بالمياه وتنسكب نقاطها على الرضيع الذي كان مصابا بجروح خطيرة».

يستجمع الأب أحزانه القديمة ويواصل: الحادثة الأليمة زادت الأواصر بيننا والأخ قولاي، منقذ ابني، زارني في القاهرة أكثر من مرة، ومحمد ابني عالق وشغوف به. ولن أنسى موقف الشيخ زايد آل نهيان - رحمه الله- إذ أمر بطائرة خاصة مجهزة بكل المعينات الطبية من سويسرا إلى بورتسودان ونقلت الرضيع إلى الخرطوم ثم إلى لندن. تكفل رحمه الله بكل مراحل علاجه في ثلاثة من أرقى المستشفيات البريطانية. ومازال أمام محمد مزيد من العمليات التكميلية ونأمل استمرار علاجه دون توقف.

ويتذكر الأب بكل العرفان والتقدير رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي تكفل بنفقات تعليم محمد حتى تخرجه. «موقف ساويرس لن أنساه أبدا، كان نبيلا وسخيا في أعظم صور التسامح والتعايش. حاولت أن اعتذر له غير أنه رفض وقال لي: لماذا تريد أن تحرمني من هذا الشرف. بصراحة كان إنسانا وكريما لأبعد مدى وله الشكر والتقدير. وبحمد الله محمد يتقدم في دراسته في أرقى المدارس والمعاهد المصرية والآن يتحدث ثلاث لغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

وحول التعويض الذي تلقاه من الخطوط السودانية يقول الفاتح إن شركة التأمين لا الخطوط هي التي دفعت وهي الآن وديعة لتعين محمد في مستقبل حياته.

وعن ظروف وطبيعة الرحلة الجوية الكارثية يقول الأب إن زوجته وابنه محمد كانا في طريق العودة للخرطوم بعد حضور مناسبة زواج لأحد أقاربهم، وبسبب ظروف طارئة تخلف هو عن السفر ومعه طفلته «لينا» إذ كانت في روضة أطفال وقتذاك والآن تستعد لدخول كلية طب الأسنان.

يواصل الأب «محمد.. ولد مبروك منذ ميلاده كل خطواته ميسورة، كل العوائق تزال أمامه، ملتزم دينيا وأخلاقيا وخدوم ومطيع، ومحبوب وسط زملائه في مكان دراسته، وأذكر أن زملاءه في مصر طلبوا منه ذات يوم أن يروه دون ساقه الاصطناعية فلبى طلبهم. ويؤكد ذلك ثقته بنفسه واعتزازه»..

يضيف الفاتح: عندما وصلته الدعوة من الأمير سلطان بن سلمان لزيارة السعودية وأداء العمرة لم تكن الفرحة تسعه. شكرا للأمير الإنسان على موقفه ومبادرته والأمر ليس بمستغرب على المملكة التي عرفت بمواقفها الإنسانية مع كافة شعوب الأرض.